العربُ والأتراك.. تحديّات الواقع ورهانات المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في دولة قطر، وعلى مدى يومي 18 و19 مايو 2011، مؤتمراً علمياً متخصصاً عن «العرب والأتراك: تحديات الواقع ورهانات المستقبل».. وقد شاركت فيه نخبة من المؤرخين والعلماء والباحثين العرب، الذين تدارسوا أوضاع العلاقات الثنائية تاريخياً وسياسياً واستراتيجياً واجتماعياً واقتصادياً. ولقد نجح المؤتمر نجاحاً كبيراً في معالجته عدة موضوعات أساسية وجوهرية، ونوقشت في ثماني جلسات عدة أوراق بحثية قدمها بعض المختصين والمراقبين، وجرت حوارات مستفيضة، وبمنتهى الحرية، سواء في ما يخص الشراكة التاريخية بين الطرفين، أو ما يخص القضايا المشتركة الراهنة، وخصوصا التجارة المتبادلة ومسائل الطاقة ومشكلة المياه، والرؤية إلى المستقبل.

افتتح المؤتمر الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز، مسجلا فلسفة المؤتمر في محاولته تأسيس مفاهيم، وبلورة أفكار، ومعالجة مصطلحات، وتحليل معلومات، ومناقشة آراء.. وتتمثل الغاية بصنع رؤية عربية واضحة عن تركيا، والتي نحن في أمس الحاجة إليها، خصوصا وأنها اشتركت معنا في تاريخ موحد، وهي تجاور بلداننا وتشارك في قضايانا اليوم.. بعد أن بقيت منغلقة على نفسها إزاء الشرق عموماً، والشرق الأوسط بالذات، لزمن طويل.

وقد عولجت في المحور التاريخي موضوعات الدولة العثمانية والعرب، وخصوصا التركيز على الحركة الدستورية والإيديولوجية الكمالية، وتداعياتهما على العرب، وما منطلقات الدور التركي المستقبلي فرصا وتحديات؟ كما تمّت معالجة الخيارات الاستراتيجية لكل من العرب والأتراك إزاء الآخر.. ثم سياسات تركيا وتحولاتها في عهد حزب العدالة والتنمية، فضلا عن تحليل علاقات تركيا بإسرائيل من طرف وعلاقاتها العربية من طرف آخر، وما الآثار الناجمة عن خطط انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي على المنظومة العربية؟

أما المحور الاقتصادي، فلقد توضّح فيه جليا أن لا توازن تجارياً بين الطرفين إذا استثنينا النفط والغاز، فالاقتصادات العربية ريعية إزاء الاقتصاد التركي المنتج.. وعليه، فإن الكوابح أكبر من الدوافع في تشكيل منطقة تجارة حرة عربية ـ تركية، كنمط من أنماط الشراكة الاقتصادية.. وإذا كنا قد خرجنا من المحور الاقتصادي محبطين، فإننا تعلمنا المزيد من الدروس..

وهذا نفسه جرى في بحث محور الطاقة، الذي اعتبر النفط مرتكزا أساسيا للعلاقات العربية ـ التركية.. ولقد طرح العديد من المؤتمرين، مشروع الغاز العربي كبنية ارتكازية لعلاقات اقتصادية تركية ـ عربية، مع تقديم خرائط لاكتشافات الغاز في شرق وجنوب المتوسط، وتداعياتها المحتملة عربيا. بعدها انتقل المؤتمرون إلى بحث أخطر محور، ألا وهو المياه، إذ قدم اثنان من أمهر المختصين العرب رؤيتهما المدعمة بالمعلومات والتحليل، عن قضية المياه ودورها في العلاقات العربية التركية، وطبيعة مشروع «الغاب» وتداعياته مثلا، ثم تأثير قضية المياه على العلاقات بين تركيا وجوارها العربي، بدرس الأنهار الدولية المتشاطئة المشتركة بين تركيا من طرف وبين كل من سوريا والعراق من طرف آخر.. مع تقديم وجهة نظر في كيفية تشغيل الأنهار المشتركة، لما فيه مصلحة الجانبين.

ثم قدم المحور الاجتماعي بمعلومات وتحليلات ممتازة أيضا، وخصوصا البحث في طبيعة وجود أقليات وجاليات تركية في الجوار العربي، ثم البحث عن العرب في تركيا الحالية.. وصولا إلى بحث عن الأكراد على طرفي الحدود العربية التركية، وما نشأ من تداعيات سياسية واجتماعية.

انتهى المؤتمر بجلسة حوار في مائدة مستديرة، نوقشت فيها جملة من القضايا الحيوية، واشترك أغلب المؤتمرين في الإجابة عن تساؤلين مهمين طرحهما راعي المؤتمر، يقولان: هل يمكن تنسيق موقف عربي في سياق علاقة عربية ـ تركية؟ وماذا تعني العلاقة العربية ـ التركية بالنسبة للعرب؟ وكيف يمكن أن تكون؟ ثانيا: هل يصلح النموذج التركي بالنسبة لعلاقة الحركات الإسلامية في الوطن العربي مع فكرة الدولة الديمقراطية؟

لقد أفاض المؤتمرون في الكلام عن قضايا متنوعة ومتعددة، ولكنهم لم يجيبوا على كل من التساؤلين المطروحين بأجوبة واضحة وقاطعة ومحددة.. ولكن بالإمكان أن يرسم العرب طريقا لهم نحو المستقبل، خصوصا وأنهم اليوم يطالبون بالتغيير من أجل تفكير جديد ومنظومات جديدة وسياسات جديدة، وحياة جديدة تتلاءم مع روح العصر.

من الأمور الأخرى التي نجح فيها هذا «المؤتمر»، أنه حرص في مثل هذه البداية الموفقة على أن يبقى الحوار والدرس والمشاركة عربيا، لكي يفهم العرب بعضهم بعضا قبل أن يغامروا بالحوار مع الأتراك مثلا، وهم بلا تنسيق وبلا أي شراكة وبلا أي موقف.. إن أهم ما يحتاجه العرب اليوم هو أن يؤسسوا لهم فهما مشتركا في التعامل مع الجوار، وكيفية معالجتهم المشتركة للمشكلات بينهم وبين الآخر.. وأعتقد أن هذا ضروري جدا اليوم، فالعرب مطالبون بأن يفهم كل منهم الآخر، من أجل تأسيس منظومة تقدّم الأهم على المهم، في معالجة قضايا الجوار ومشكلاتهم ورسم آفاق المستقبل..

لقد نجح هذا «المؤتمر» في وضع جملة من النقاط على الحروف، خصوصا وأنه يأتي في زمن تتعاظم فيه المتغيرات العربية لصنع إرادة جديدة أولا، ولتحديد أفق عربي جديد للمستقبل ثانيا.. نتطلع مخلصين أن نرى أعمال «المؤتمر» ومداخلاته وأفكاره مجموعة في كتاب سينشر قريبا، كما وعد المركز بذلك، لتعم الفائدة ويساهم في إثراء العلاقات العربية التركية.. ورفد الأجيال العربية الجديدة بما تحتاجه في رسم مستقبلها القادم.

Email