تشكل الأسطورة والخرافة جانباً مهماً من تشكيلة المجتمعات، ذلك أنها تتمثل في الوعاء الذي تستمد منه الشعوب قيمها ومعارفها، وتاريخها، وأفكارها. وبمعنى أدق؛ تعرف الشعوب من خلالها صورة نفسها. لذا نجد أن الكثير من الأمم تعتني بأساطيرها وخرافاتها، وتعمل على إبقائها حية في أذهان شعوبها، وبالذات أجيالها الجديدة، لأنها ترى فيها شكلا من أشكال الاستمرارية لما يعنيه وجودها في هذه الحياة.

 

ولو نبشنا في الأساطير والخرافات التي يعيش بها ومن خلالها الكثير من الشعوب، وتعرفنا إلى ما تحمله من معان، سنجد أننا نقترب من تشكيل مفاهيم وخلق إدراك يقربنا من معرفة الكيفية التي فكر ويفكر بها الناس في بقاع مختلفة من الأرض، أي أننا نقترب من المفاتيح التي تمكننا من معرفة الثقافات البشرية المختلفة، والكيفية التي تعامل بها الناس مع أمور حياتهم ومحيطهم الذي يعيشون فيه، في زمن تاريخي ما.

 

ولقد نقل لنا الكثير من الدراسات، من دول مختلفة من العالم، الكثير من الأساطير والقصص والخرافات التي شكلت جانبا مهماً من جوانب الذاكرة البشرية، وعرفتنا إلى الكثير من أفكارها. ففي اليونان القديم عرفتنا أسطورة زيوس، .

 

كما نسميه، على الكثير من المعاني التي تشكلت بها ثقافة تلك البقعة من الأرض، والتي من بينها ظهور أثينا المرأة المحاربة، التي حمل بها زيوس في رأسه فكان لهذا تأثير في جانبين في تلك البقعة من الأرض؛ الجانب الأول إخراج المرأة من دائرة الحياة التي عرفت بها في أدوارها المختلفة، وإدخالها ضمن دور آخر هو دور المرأة المحاربة والقائدة لأمتها، ومن هذا المعنى ولدت أثينا.

 

كما انبثق من هذه الأسطورة أيضا معنى ارتباط مثل هذه الأمور بالعقل، حيث زيوس لم يسمح لامرأته بحمل طفله، خوفا من أن يأتي من ينازعه على العرش، واختار أن يحمل هو بحملها في رأسه، إلى أن بدأ صداع شديد يداهمه، مما استدعى أن يطلب من أحد رجاله أن يشق له رأسه بالفأس، وهكذا ولدت أثينا.

 

وفي بابل تحمل لنا أسطورة كلكامش معاني كثيرة، من بينها سعي الإنسان نحو فكرة الخلود، والبحث عما يمكن أن يجسدها، مثلما تحمل لنا معنى الصداقة وارتباط البشر ببعضهم البعض من خلال وشائجها، عبر تصوير العلاقة التي ربطت بين كلكامش وأنكيدو. وتحمل أسطورة كلكامش أيضا معنى تهذيب النفس عن طريق المحبة والاقتراب من الآخر المختلف،.

 

وذلك من خلال دفع كلكامش بانكيدو إلى خلق علاقة بينه وبين إحدى سيدات المعابد، والتي سعت من خلال علاقتها به إلى أنسنته، هو الذي تربى في الغابة وبين الحيوانات، وتعليمه فنون المحبة وتهذيبه.

 

ولدى العرب أيضا أساطيرهم المختلفة، وقصصهم الخرافية، مما يشكل لهم مخزونا مهما يعرفهم على تاريخهم والكيفية التي بها تشكلت أمور حياتهم. وهناك على سبيل المثال، وكما يروي بعض الباحثين، قصص حتى عن كيفية تشكل اللغة، والتي يقال حولها إن العلامة الإمام السيوطي ذكر في أحد كتبه، .

 

وهو كتاب «المزهر» أن أبجد وهوز كانا رجلين عاشا في فترة من تاريخ حياة العرب، وكان لهما الأثر في بداية اللغة وتشكيل كتابتها. كما يذكر في هذا الصدد، وعن شعب آخر هو الشعب الصيني، أن أسطورة تعلم الكتابة عندهم تحكي عن دور عالم تفكر في تشكيلات مشي الطيور، ومنها استنبط شكل الكتابة الصينية.

 

وفي ذاكرتنا الشعبية هناك الكثير من القصص التي شكلت جوانب كثيرة من الكيفية التي تعاملنا بها مع الحياة، فحين كنا صغارا تعلمنا الاختباء من حر الظهيرة لأن جداتنا وأمهاتنا كن يحكين لنا عن حمير أو كلاب «القايلة»، وهي فترة الظهيرة، وكيف أن حمير وكلاب القايلة هي كائنات بلا رؤوس تؤذي الأطفال لو أنهم خرجوا في تلك الساعة من النهار.

 

. كانت هناك أيضا أسطورة أو خرافة «غبة سلامة»، أو غبة سلامة وبناتها، وهي حول منطقة مضيق هرمز، والغبة هي كلمة تدل على المياه العميقة، والخرافة حولها تقول إن من يمر بتلك الغبة عليه أن يرمي لسلامة وبناتها ببعض حمولته من الطعام، حتى يسمح له بالمرور من تلك المنطقة شديدة الموج وذات التيارات البحرية الخطرة.

 

. هناك أيضا في خرافاتنا تحول بعض الكائنات كالشجر والحيوانات، من كائنات عادية إلى كائنات خرافية لبعضها أدوار لا تخلو من الشر، كأن يرتبط حيوان الضبع في أذهاننا بكائن خرافي يستخدمه السحرة للتنقل على ظهره، أو أن يتشكل من سعف النخل كائن خرافي يسكن في مخزن الطعام ليخيف من يريد الحصول على شيء منه ليلا، وهي «سويدا خصف». وهناك بابا درياه وشنق بن عنق، وشخصيات كثيرة شكلت جانبا مهما من جوانب ذاكرتنا ومعرفتنا بثقافتنا.

 

. والجانب المهم في كل هذه القصص والأساطير أنها ترفد جوانب المعرفة، مثلما تشكل منبعا مهما من المنابع التي ينقل البشر من خلالها القيم التي يشكلونها ويتشكلون بها في حياتهم. فنحن، ورغم إدراكنا أن الأسطورة والخرافة منبعهما الخيال، في غالب الأحيان،.

 

ونستند في ذلك إلى قول الله تعالى في كتابه العزيز وفي سورة المؤمنون: أساطير الأولين، في إشارة إلى ما ليس له مستند في الحقيقة، إلا أننا ندرك أهمية وجود الأسطورة في حياة البشر، وأنها كما قلنا تشكل رافدا مهما من روافد تشكل الأمم ومن صورتها الكلية.

 

. يقودنا هذا للحديث عن وضع الأسطورة في حياتنا المعاصرة، وهل هناك من أساطير تصنع اليوم؟ والإجابة عن هذا السؤال يحملها لنا البحث في الدور الذي يلعبه الإعلام، كناقل مهم للأفكار وللقيم في عصرنا الحديث.

 

وفي صناعة الأساطير، والمثل الواضح الذي نعرفه هذه الأيام هو أسطورة ابن لادن، وفي معنى يقترب من صياغة أسطورته نتعرف أيضا إلى أسطورة «الإرهاب». نحن نكتشف من خلال أسطورة ابن لادن تشابها كبيرا في كيفية صنع الأسطورة، تمثلت ذروتها في الكيفية التي بها صيغت معلومات وخبر وفاته، .

 

إذ يقوم معظم تلك المعلومات على مصادر محددة، وليست هناك من جهة محايدة شاهدة على ما قيل إنه قد حدث، وبالتالي تصبح لدينا في هذا الخصوص قصص تصلح لمفهوم الخرافة أكثر مما تقترب من الواقع والحقيقة. ولعل الحكايات المصاغة حول هذا الأمر، تستجلي لنا معنى صياغة الخرافة والأسطورة في وسائل الإعلام.

 

مفهوم الإرهاب أيضا من المفاهيم التي اشتغلت عليها وسائل الإعلام، الغربية أولا، ثم تناقلتها وسائل الإعلام التابعة، دون أن توجد لها صيغا تقربها من الحقيقة والواقع. فهو مفهوم ملتبس، لا وجود واضحا له، يتم استخدامه في ظروف كثيرا ما تناقض بعضها، لكنها قد تلتقي في شكل واحد، ألا وهو استخدام الكلمة في التعريف بكل الأشكال التي لا تتقبلها الذهنية الغربية المعاصرة، وهو مفهوم كما قلنا ملتبس ولم يتم وضع تعريف واضح حتى الآن للمعنى الذي به نستدل عليه.

 

. ومن الأمثلة التي نسوقها في هذا الخصوص، أن إفقار العراق والتنكيل بأهله تم تحت مسمى مكافحة الإرهاب، وأن الحرب التي تطحن الأفغان والباكستانيين وشعوبا أخرى تقع تحت مسمى مكافحة الإرهاب، ومحاربة الشعبين اليمني والليبي تقع تحت مسمى مكافحة الإرهاب، بجانب أن استخدام قوانين الطوارئ وتضييق الخناق على الكثير من الشعوب تم تحت مسمى مكافحة الإرهاب، وهناك أمثلة أخرى كثيرة.

 

خلاصة القول، أن الأسطورة والخرافة يحملان الكثير من شطحات الخيال ومن الصيغ التي تدخل فيها عناصر المبالغة والاعتماد على اللامنطق، لكنها في صيغها القديمة كانت في غالب الأحيان ناقلا مهما لقيم الصدق والصداقة والخير والجمال. أما في عصرنا الحالي، .

 

ومن خلال الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة في صياغتها، فإننا نجدها تعزز قيما أخرى، من أهمها الكذب وتعزيز القيم المادية والتفرقة والأنانية، وإعلاء المصلحة الشخصية على المصالح العامة.. والأهم من ذلك، خلق التباس كبير حول مفهوم الاستعباد، بجعله يبدو وكأنه مفهوم للحرية.