يغمرني قلق عظيم مما يمكن أن تحمله هذه العواصف التي تجتاح أرضنا العربية، تمزق أذرعها وأرجلها في بعض الأماكن، وتتركها في العراء تنهشها ضباع الأرض وعقبانها. وهو ما يجعل بعضنا يشعر أن مقاعد اليقين لم تعد تتسع لنا، بل تستقبلنا أرض الرمال المتحركة كل يوم. ترى أي شيء هذا الذي يزلزل العالم، بَشرَه وأرضه؟ أي رياح للتغيير تهب على الأرض، ليس كل الأرض، بل بقاع محددة فيها؟ والسؤال الذي يعصف بذهني؛ لماذا هذه البقاع بالذات؟ ولماذا اليوم؟!
أمور كثيرة تتداخل اليوم، وحقائق كثيرة تتلاشى، أو تحجبها عنا كمية الغبار الهائلة التي تعصف بها رياح هوجاء، قد تجعل الأرض في الكثير من بقاعها عرضة للتزعزع.
بدأنا نتلمس الغضب التونسي في بداية العاصفة، تفاءلنا قليلا، ليس لأننا لم نشعر بلفحة اللهب على البوعزيزي، بل لأنه كان لدينا خوف من أن يسرق أحدهم جذوة من النار التي اشتعلت في البوعزيزي، وأن يستخدمها لحرق أحلام شباب آخرين، بجانب أننا ندرك أنه ليس لأي شيء في الكون وجه واحد أو حقيقة واحدة، وأن أي ميل شديد لأي شيء في اتجاه واحد سيؤدي إلى انقلابه.. ندرك أيضاً أن زين العابدين بن علي (الذي لا يشبه اسمه على ما يبدو، أو أنه زين عابدي السلطة والمال) قد تمادى في جر تونس الخضراء إلى جدب يجردها، ليس من اخضرارها فقط، وإنما من روحها أيضا.
ثم اشتعل بعد ذلك الفتيل في مصر. كنا نعرف أن مصر قد وهنت كثيرا، وأنها كانت بحاجة إلى أن تستعيد ألقها وبهاءها، وأن تستعيد «بهية» وضع طرحتها فوق رأسها وتمشي لتملأ قللها من مياه نيل نظيفة، يداعبها النسيم ويغني أحبتها لها، دون أن يعترض طريقها بلطجي بلا قلب، يجر طرحتها إلى التراب ويعفر ثوب عزتها.
لكن كيف ستترك بهية لتستعيد ألقها، وهي التي شكل وهنها جسرا تمر عليه القوافل التي تسرق من البحر والأرض ليلا وتهرب بها إلى الأراضي البعيدة، يساعدهم في ذلك رجال من أرضها سرقتهم شهوات الدنيا من فوق جياد العزة، وألقت بهم في دروب الخذلان! إن بهية ليست كمثل الكثير من الفتيات، فهي حين تمد أذرعها تصير جسورا تعبر عليها جياد خبأها العرب في كهوف الشمس. وحين تضحك، تغمر البهجة كل الأرض. وبهية يشتهي الكثير من الرجال أن يكونوا محظيين لديها، بمن فيهم من لا يستحقون.
تعبت بهية كثيرا حين صارت مكانا تسحب منه الحياة، ومائدة يقتات عليها ومنها كل من لم يحترم بهاءها وعزتها.. وحين هب من حولها من قال لها جاء وقت التغيير، وقفت بهية ويدها على قلبها، وهي ما زالت في حيرة، فهي تريد استعادة مجدها وكرامتها، لكنها تخاف على أبنائها من أن يسرق اللصوص حلمهم وخبزهم، تخاف عليهم من ذئاب الأرض. وبهية تدرك أن دربها ودرب أحبتها صعب، لكنها تحلم أن يجتازوه. وهي تدرك أيضاً أنه قد دخلت إلى جسدها جراثيم كثيرة، وتغلغلت فيه كائنات بعضها لا يعيش إلا على امتصاص دماء البشر وعرقهم وكرامتهم، وبالتالي فهي تتساءل كل ليلة عن الطبيب الذي سيعمل على تنقية جسدها من كل هذه الكائنات، وهي في قرارة نفسها تعرفه، لكنها تخاف أن يكتفى لها بعملية تجميلية صغيرة تزيل بعض الشوائب التي نبتت على ظاهر وجهها، وتترك تلك الكائنات والديدان تعاود النهش فيها من جديد. ومع ذلك لا تستطيع بهيه أن تمنع نفسها من الحلم ومن أن تتحرك في اتجاهه.
طارت الشرارات بعد ذلك إلى أراض جعلتنا، ليس فقط مذهولين لأننا لم نتوقع لها أن تطالها الشرارات، بل لأننا كان لنا من المياه ما يكفي لتبريد كل الأرض. ولم نكن نتوقع، نحن الذين كنا نشتغل على غزل أحلامنا كل مساء ونعرف أنها ستكون قابلة للتحقق، ولو بعد حين، أن نصبح نحن عرضة لبعض الرياح، وفي سرعة لم نحتسبها، مما جعلني أستدعي أبياتا من قصيدة للأمير عبدالرحمن بن مساعد آل سعود، يقول فيها:
وصبري صبر بحارة
بغوا في اليم محارة
غشاهم موج، كان من الغضب أغضب
وكانوا للهلاك أقرب
لولا كثروا التسبيح.
نحن الآن في مرحلة التسبيح، لم نخرج بعد من جحيم العاصفة، ونحن ندرك أن هذه العاصفة لو استمرت معنا ستعرض الكثير مما حلمنا به للضياع وللتمزق، لذا لا بد لجهودنا من أن تتضافر من أجل الحفاظ على ما وصلنا إليه ودفع مساراته لما هو أفضل، لا أن نسعى لمزالق قد تجرنا كلنا إلى ما لم نكن نتمناه. كلنا يعرف أن الحروب والنزاعات لا تخلف إلا الدمار، مزيدا من الفقراء، مزيدا من نساء يبعن أجسادهن، مزيدا من أطفال يصبحون بضائع، كاملة أو مجزأة، مزيدا من الأرض المدمرة غير القابلة للزرع، مزيدا من الدمع والدم. ومن هذا المنطلق يجب أن يكثر تسبيحنا وصلاتنا، من أجل أرض لا نريد أن يطالها الخراب ولا الوهن ولا التمزق. أرضنا التي نحبها ونحب أن نراها في عافية، لا مريضة ولا مستباحة.
دعونا نصلي جميعاً، كل الأديان وكل الطوائف، من أجل السلام. فنحن نحتاج إلى استقرار كي تكون حياتنا أفضل. نحتاج إلى أمن، كي نجعل أطفالنا يعيشون في بيئة لا تمزق طفولتهم، نحتاج أن نعمل دون أن نشعر بإذلال، وكل هذا لا تحققه الحروب ولا الصراعات. يحققه فقط حرصنا على أن نعتني بالحياة وبالناس وبالأرض.