إرادة التغيير عند زعيم عربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

«وأقول لإخواني المسؤولين العرب، إن لم تغيروا ستغيَّرون، إن لم تبادروا إلى إصلاحات جذرية... ستنصرف عنكم شعوبكم، وسيكون حكم التاريخ عليكم قاسياً».

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (في كلمته أمام المنتدى الاستراتيجي العربي ‬2004)

كنت أصغي لكلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في المنتدى الاستراتيجي العربي يوم ‬12 ديسمبر ‬2004، وهو يناشد الزعماء العرب من أجل التغيير ورسم خارطة إصلاح نحو ,‬2020. قلت لنفسي: هل فكّر أي زعيم عربي في نصيحة هذا الرجل؟ كان يدعوهم بحكمة وإخلاص إلى تغيير نهجهم، وتبديل سياساتهم، وتطوير بلدانهم، وتقدم شعوبهم.. وللأسف، لم يستمعوا إليه، ولم يشاوروه، بل تشبثوا بالسلطة والقوة والنفوذ والفساد..

كانت صرخة الشيخ محمد بن راشد مدوية، ولكنهم حجبوها، ولم يفهموا مقاصدها ومعانيها.. وهو ينصحهم بأن التغيير ضرورة حياة بالنسبة إلى عالم عربي له قدراته المادية وإمكاناته البشرية، كي يكون له شأن كبير في حياة العصر.. سمعته يؤكد: إن الدول العربية مطالبة بإحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وهيكلية، كي يحل الرخاء والاستقرار والازدهار شكلاً ومضموناً عام ‬2020.

كان الزمن يتقدم بسرعة نحو الأمام، ولم يفتحوا عيونهم على تجربة عربية تفوقت بشكل مبهر في التغيير، والتي قادها زعيم مستنير راحل، هو المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي كانت له قدراته الريادية على امتداد ثلاثين سنة، ارتقت خلالها الإمارات إلى مصاف المجتمعات المتقدمة.. لقد حققت الإمارات نجاحا منقطع النظير، جراء الحكم الصالح، والانفتاح على الناس، والاستماع إليهم، والإخلاص في العمل، وتقديسه، وتحقيق العدالة، وفرض الأمن، وإحياء الصحراء، وبناء المدن، وتعليم الإنسان، وتطبيق القانون، وتوفير الرخاء، والانفتاح على العالم، وتنمية الاقتصاد وإشاعة الخدمات.

السؤال: لماذا لم يتعلّم الزعماء العرب من هذا النموذج الإنساني والحضاري حزمة قيم ومبادئ؟ لماذا لم يمتلكوا رؤية واضحة وشجاعة للتغيير؟ ماذا لو اعتبرت هذه «المبادرة» الرائعة ورقة عمل للجميع؟ إنهم كما ناشدهم: شطار في الحديث عن التغيير، لكن إرادة التغيير مرتعشة أو ضعيفة، ونحن نتحدث طوال عقود عن الوحدة والتعاون، لكننا نتحدث اليوم عن منع التفتت.

لقد رد الشيخ محمد على الذين ليس لهم إلا التشدق بالشعارات والأوهام إزاء مخاطر العولمة، مؤمنا بصيرورة التعاون العربي وإمكاناته وجدواه، وهو تحصيل حاصل للعرب، فالتعاون أصبح ضرورة لكل أمم وشعوب العالم، لمواجهة الفقر والأوبئة والاحتباس الحراري والإرهاب والتطرف والانقسام المعرفي.

إن الرجل كان ولم يزل يحلم بصورة عالم عربي ينعم بالرخاء والاستقرار عام ‬2020، ويؤمن أن العرب قادرون على ذلك، «فالمال ـ كما يقول ـ ليس هو العامل الحاسم في التغيير والإصلاح، بل يعد عامل تفريق بين الدول لا عامل توحيد، وعامل استرخاء لا عامل نشاط. إن مفهوم الثروة واسع، فالماء ثروة، والأرض الزراعية ثروة، والتراث ثروة، والموارد البشرية ثروة لا تنضب، ونحن في عصر تبدلت فيه أهمية عناصر الثروة، وبات الإنسان والمعرفة والمعلومات أهم هذه العناصر».

ويستطرد: أقول هذا، لكي لا يتحجج أحد منا.. بشح الموارد أو ندرتها، فلا يخلو بلد عربي من مصادر للثروة، لكن المهم هو حسن إدارتها وتنميتها واستثمارها وتوظيفها لمصلحة الناس. وإن مركز الثقل في التنمية اليوم هو رأس المال البشري، ومركز الثقل في التقدم هو الحكم الصالح، ولن يفيد الهروب من مراكز الثقل إلى الهوامش والفرعيات، واستبدال العمل الحاسم بالدوران في حلقات النقاش البيزنطي، والاختلاف على جلد النمر قبل اصطياده، والبحث عن مؤامرة أو خطة شريرة خلف كل جديد، وكل ذلك من أجل تكريس الوضع القائم ومقاومة الإصلاح وتأجيل التغيير.

لقد بات هذا العالم أكثر ترابطاً، وهو اليوم بمثابة سوق مفتوحة للسلع والأموال والاستثمارات والخدمات والمعلومات والثقافة والأفكار. أما الهواجس، فلقد لخصها بتفاعلنا مع العصر الجديد لتحقيق أهدافنا، قائلاً: «وأكثر ما يقلقني في هذا الترابط العالمي، هو المؤشرات المتزايدة على إمكانية نجاح مدرسة صراع الحضارات وتصنيفها على أسس عرقية ودينية.. إذا استمرت هذه التصنيفات في سياقها الصاعد، فإنها ستذهب بعالمنا إلى نفق مظلم من العنف والعنف المضاد، والصراعات التي لن تكون لها نهاية ولن يكون فيها رابح». لقد صدق في رؤيته تماما.. وها نحن نرى اليوم ما يجري في أوطان عربية عريقة!

ويتابع قائلاً: «من حقنا أن نتطلع إلى عالم عربي مغاير في العام ‬2020، ومن واجبنا أن نعمل ونتحرك بأسرع من السرعة نفسها. نحن مسؤولون عن مصائرنا، وبيدنا لا بيد غيرنا يتحقق التغيير والإصلاح. إن الإصلاح لن يتحقق بالمشاريع الأجنبية والقوالب الجاهزة، ولا تساعد على تحقيقه جنازير الدبابات وهدير المدافع وإدارة الأزمات بدل العمل على حلها. يعيش عالمنا العربي وسط أزمات ومشكلات وقلاقل منذ قرن تقريباً، وقد اعتاد الكثيرون منا على تحميل الأزمات والمؤثرات الأجنبية مسؤولية فشل التنمية».. لقد حذر الرجل من الفساد ومراكز القوى، وحثّ للقضاء عليها، وقدم نصائح ثمينة للحكام العرب الذين لم يستمعوا إلا إلى أنفسهم! واختتم نداءه التاريخي قائلاً: «في العام ‬2020 سيقترب حجم العرب من ‬400 مليون نسمة، وسيكونون بحاجة إلى عشرات ملايين الوظائف الجديدة، ومئات مليارات الدولارات للصرف على البنى التحتية، وإلى جهود جبارة للقضاء على الأمية وتطوير التعليم وتقليص فجوة التأخر عن العالم.. وكلها لا توفرها المفاهيم والأساليب السائدة». ويختتم مناشدته المخلصة ونبوءته الدقيقة بقوله: «أقول للحكومات تفرغي لأعمالك، وقومي بواجباتك في التشريع والتنظيم والرقابة، ووفري بيئة العمل للقطاع الخاص، واحميه من مخالب مراكز القوى وفارضي الإتاوات. وأقول لإخواني المسؤولين العرب، إن لم تغيروا ستغيرون، إن لم تبادروا إلى إصلاحات جذرية تعيد الاحترام للعمل العام، وترسي مبادئ الشفافية والعدالة والمساءلة، ستنصرف عنكم شعوبكم، وسيكون حكم التاريخ عليكم قاسياً».

 

Email