ها قد فعلها تيري جونز «القس المنحول»، وقام بإحراق نسخة من القرآن الكريم.
ففي محفله الذي لا صلة له بالمسيحية الحقيقية، أناب عنه القس «واين ساب» ليطلق النار في نسخة من الكتاب المقدس لدى أكثر من مليار وربع مليار مسلم حول العالم، في تراجع واضح عن الوعد الذي قطعه على نفسه في سبتمبر الماضي «بعدم حرق القرآن، لا اليوم ولا في ما بعد». إن ما جرى يستدعي تساؤلات ويرسم علامات استفهام متنوعة ومتباينة، تتراوح ما بين الحدث على سطحيته والظاهرة بعمقها.
ولعل أولى علامات الاستفهام في هذا المقام؛ هل انهار الإسلام وانهزم المسلمون بعد حرق جونز نسخة من القرآن؟ وهل القرآن مجرد نسخة ورقية تحرق أو تغرق أو تسرق أو تخرق، أم أنه منهاج حياة برسم الصدور والأفئدة والعقول؟
لم يعر أحد اهتماما لجونز هذه المرة، وجل الذين حضروا لمشاهدة طقوس الحرق الفاشية لم يتجاوزوا ثلاثين فردا، في حين أن وسائل الإعلام الأميركية ضربت عنه صفحا، وتجاهلته تجاهلا واضحا، ما أفشل محاولته الدعائية للمرة الثانية في لفت انتباه العالم إليه.
ومما لا شك فيه أن محاولة القس المنحول، صاحب السجل المالي والأخلاقي المشين في أوروبا وفي أميركا نفسها، لا تخلو هذه المرة من خبث ودهاء شديدين من حيث توقيت المحاولة، فالرجل ـ الحدث، يحاول استغلال الأجواء السلبية التي تمثل الظاهرة الأخطر لجهة الإسلام والمسلمين، في الداخل الأميركي والخارج على حد سواء. إنها الاسلاموفوبيا مرة أخرى، والتي حمي وطيسها مؤخرا في الولايات المتحدة، على أكثر من مستوى داخلي وخارجي.
أما على الصعيد الخارجي فقد جاءت الثورات والفورات الأخيرة في العالم العربي، لتنطلق معها حملة عاتية من الإرهاب الفكري، إن جاز القول، المتعلقة بالشرق الأوسط الإسلاموي القادم، والذي لا هم له سوى القضاء على الحضارة الغربية، وتنظيرات هانتنغتون وخلاصات فوكاياما خلف الباب رابضة، لمن يحتاج إلى ذرائع لتأكيد صدقية هذا الحديث.
أما على الصعيد الداخلي فقد عمل تيري جونز على الاستفادة من الزخم الداخلي المضاد للمسلمين، والذي تجلى في دعوة عضو الكونغرس اليميني الجمهوري عن نيويورك ورئيس لجنة الأمن القومي في مجلس النواب «بيتر كينغ»، إلى جلسة استماع خاصة في الكونغرس حول ما أسماه «دور المسلمين في تنامي الإرهاب الداخلي»، وقد أعرب في تصريحات تلفزيونية عن اعتقاده بأن عناصر من القاعدة تقوم بنشر الراديكالية والتطرف بين المسلمين الأميركيين. في هذه الأجواء، أراد تيري جونز أن يظهر على سطح الأحداث، لكن الحقيقة هي أن الأمر بدأ يأخذ منحى أخطر من مجرد تغطيات إعلامية، لجهة التحول إلى السيناريو الأسوأ من التشكيك والتخوين والنظر إلى المواطن الأميركي المسلم، سواء كان عربيا أو آسيويا أو من أصول أميركية، نظرة ملؤها الريبة، ما يعيد الفصول ذاتها التي انسحبت على الأميركيين من أصول يابانية في أعقاب موقعة بيرل هاربور في زمن الحرب العالمية الثانية.
لم يهتم أحد بدعوة جونز لإحراق نسخة «ورقية» لا «قلبية» من القرآن، سيما وأن المرجعيات الدينية المسيحية الكبرى حول العالم، قد جرّمت هذا الفعل منذ بضعة أشهر خلت. فعلى سبيل المثال؛ صدرت وقتها صحيفة الفاتيكان الرسمية «الاوبسيرفاتوري رومانو»، تحمل عنوان «لا أحد يحرق القرآن»، ولتؤكد أن هذه الدعوة تتعارض مع الإيمان المسيحي.
ووقتها كذلك، قال الناطق الرسمي باسم إعلام الفاتيكان «فيديريكو لومباردي»، إن «ذلك الفعل يذهب في الاتجاه المضاد لبناء السلام الذي نحن مدعوون إليه باعتبارنا مؤمنين بالله».
كان هذا هو حال الدوائر الإعلامية والدينية الغربية، في مواجهة محاولة البغض والكراهية الأخيرة لجونز. وعلى منقلب آخر، كان العالم العربي والإسلامي أكثر هدوءا وعقلانية في تعاطيه مع الحدث، بعيدا عن العواطف والمواقف الإعلانية والدعائية. وربما بات السؤال الذي يتوجب أن يقف أمامه على السواء، أصحاب النوايا الطيبة والطوايا الصادقة للتعايش المشترك، من العرب والمسلمين ومن الغربيين كذلك، هو: ما العمل في مواجهة الإسلاموفوبيا البغيضة وتصاعدها المثير لكثير من المخاوف التي تجد، للأسف الشديد، الكثيرين الذين يحاولون إذكاء نيرانها شرقاً وغربا؟
في كتابه العميق «التهديد الإسلامي خرافه أم حقيقة؟» يحدثنا البروفيسور جون اسبوسيتو، مدير مركز الحوار بين الأديان في جامعة جورج تاون الكاثوليكية في واشنطن، عن المخاوف والهواجس التي باتت تقض مضاجع الأميركيين، وخاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، فيقول: «إذا قلنا بوجود تهديد غربي أو تهديد يهودي ـ مسيحي فالإجابة نعم، فالإسلام مثل اليهودية والمسيحية قدم طريقا للحياة وهداية حولت حياة الكثيرين، إلا ان بعض المسلمين مثل بعض المسيحيين واليهود، قد استغلوا أيضا دينهم لتبرير العدوان والحرب وإضفاء الشرعية عليه، وكذلك الغزو والاضطهاد في الماضي والحاضر».
ما الذي يتبقى قبل الرحيل؟ هناك إشارة حتمية إلى ثلاث نقاط:
أولاها؛ أن التجربة الثورية العربية الجديدة وتعاطي الإسلام السياسي معها، سيكون ولا شك محورا إما محفزا لتلك الإسلاموفوبيا للنمو والتصاعد، أو مفندا ومفشلا لادعاءاتها، وهذا أمر يحتاج إلى وقت للحكم على سير الأحداث.
ثانيها؛ أنه لا بد للعرب والمسلمين من طرح التساؤل التالي: «من المسؤول عن الجهل بالإسلام في الغرب»؟
ثالثها؛ أن يدرك الأميركيون أن النظرة السلبية التي يحملونها للإسلام، هي رجع صدى لرؤى وتوجهات إمبريالية داخلية وعبر خمسين سنة مضت.
ومن دون مراجعة حقيقية لهذا المثلث الفكري، يخشى المرء من الأسوأ الذي لم يأت بعد.