يطرح ما يحدث على الساحة العربية منذ السابع عشر من ديسمبر الماضي، أكثر من سؤال عما حققته الثورات العربية على مدى السنوات الماضية، وعما إذا كانت تلك الثورات قد استطاعت أن تحافظ على الأهداف التي قامت من أجلها، أو أنها انحرفت عن تلك الأهداف، أو أن الذين قاموا بها أو ورثوها عن الثوار هم الذين انحرفوا بها عن مسارها الصحيح، وعما إذا كانت الثورات التي يموج بها العالم العربي اليوم قد أتت لتصحيح مسار تلك الثورات التي خيبت الآمال، أو إلغائها تماماً لتبدأ عهداً جديداً، بعد أن فشلت ثورات القرن العشرين في إحداث التغيير الذي كانت تنتظره منها الشعوب العربية التي تبنت تلك الثورات، وضحّت من أجلها، وكانت على استعداد لأن تدفع أرواحها، لو أن تلك الثورات حافظت على المبادئ التي قامت من أجل تحقيقها ؟!
أسئلة من الواجب طرحها كي لا يذهب أكثر من نصف قرن من حياة وتاريخ الأمة العربية سدى، وكي لا يعيد التاريخ نفسه فترتكب ثورات القرن الحادي والعشرين الأخطاء نفسها التي ارتكبتها ثورات القرن الذي قبله، وكي لا نجد أنفسنا أمام شعارات منسوخة من تلك الشعارات التي لم تستطع أن تحافظ على مصداقيتها، أو لم يستطع أولئك الذين رفعوها المحافظة عليها.
ليس ثمة من ينكر أن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر هي أم الثورات العربية الحديثة، وأنها كانت النموذج الذي اقتبس منه الثوريون في البلاد العربية التي سارت على خطى مصر؛ الفكرة والأسلوب والمبادئ التي قامت عليها ثوراتهم، في مرحلة ساد فيها النظام الملكي أنماط الحكم في الدول التي قامت فيها تلك الثورات التي استلهمت روح ومبادئ ثورة 23 يوليو، مثلما حدث في العراق في ما سمي بثورة 14 تموز عام 1958 التي أطاحت بالملك فيصل الثاني وأعلنت قيام الجمهورية العراقية، من خلال البيان الأول الذي تلاه العقيد الركن عبدالسلام عارف، ثم تكرر المشهد في ليبيا في ما سمي بثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 التي أطاحت بالملك إدريس السنوسي وأعلنت قيام الجمهورية العربية الليبية بقيادة الملازم أول معمر القذافي.
لقد جمعت المبادئ التي قامت عليها هذه الثورات بينها، فكان القضاء على الاستعمار هدفاً رئيساً من أهدافها، كما كان القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم هدفاً آخر من أهداف تلك الثورات. وتنوعت بعد ذلك الأهداف لتشمل إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وتأسيس جيوش وطنية قوية، ونشر العدالة الاجتماعية للقضاء على الفوارق الطبقية، وتوزيع الثروة بشكل عادل يقضي على التمايز الطبقي الذي كان سمة من سمات العهود الملكية التي جاءت تلك الثورات لإزالتها، وإحلال أنظمة حديثة تحقق آمال وطموحات الشعوب العربية المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، التي هي ركن رئيس من أركان المجتمعات الحديثة، لمواكبة عصر النهضة الذي كان يحث الخطى نحو المستقبل، مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين الذي بدأت فيه تلك الثورات تطلق شراراتها الأولى.
ولم تتشابه ثورات القرن العشرين في المبادئ فقط، بل تشابهت حتى في طرق قيامها، وفي مسميات الحركات التي قامت بها، والتي اقتبست مسمى «حركة الضباط الأحرار» من ثورة 23 يوليو المصرية، ليصبح هذا المسمى الأيقونة التي تضمن لأي حركة ثورية أو انقلابية النجاح الذي تتطلع إليه، وتنال مباركة الجماهير ورضاها، والمسيرات التي تسد وجه الشمس تأييداً لها، والهتافات التي تتقطع فيها أحبال الجموع الصوتية، فداءً بالروح والدم لحياة الزعماء والقادة الذين سيغيرون وجه التاريخ، ويفتحون بوابات المجد للأمة التي عانت طويلاً من عهود الظلام التي جاء الثوار لتغييرها.
فما الذي حدث على مدى العقود الستة الماضية، منذ قيام تلك الثورات، وحتى انطلاق ثورة السابع عشر من ديسمبر في تونس، وما تلاها من ثورات خلطت الأوراق، وأعادت رسم صورة المستقبل، ويبدو أنها في طريقها إلى إعادة تشكيل خريطة التحالفات، وتغيير قواعد اللعبة التي طالما تحكمت فيها الدول الكبرى، وتحاول اليوم أن لا تفقد سيطرتها عليها بالاصطفاف إلى جانب الثورات ومحاولة كسب ودها؟
لقد قضت تلك الثورات على الاستعمار القديم، لكنها جاءت باستعمار جديد تمثل في الشركات الكبرى التي اشترت قادة الثورة وأدخلتهم هم وأبناؤهم معها في شراكات درت عليهم المليارات التي نسمع ونقرأ عنها اليوم. وذهب الإقطاع بشكله القديم، وجاء إقطاع جديد تمثل في احتكار السلع الأساسية، والتحكم في أقوات الناس وحاجاتهم ووضعها في أيدي رجال السلطة وأعوانهم.
وعادت سيطرة رأس المال على الحكم أشد وطأة وبشاعة من العهود الملكية الغابرة. وتحولت الديمقراطية التي جاء الثوار لنشرها، إلى حزب واحد مسيطر على الحياة السياسية، إلى جانب أحزاب كرتونية تكمل المشهد، كي لا تفسد الطبخة التي تفنن طهاة السلطة في إعدادها ورش الملح والفلفل عليها.
واتسعت الهوة بين الأغنياء، الذين أصبحوا هم السلطة الحقيقية، والفقراء الذين تبخر حلمهم بالعدالة الاجتماعية التي وعدتهم بها الثورة.
والأهم من هذا كله؛ أن القادة الثوريين أصبحوا أكثر دكتاتورية من الحكام والملوك الذين خلعوهم، بل أصبحوا يورِّثون السلطة أبناءهم بشكل فج وسافر، متخلين عن كل المبادئ الثورية التي جاءت في بيانات الثورة الأولى، التي لم تعد تحمل حروفها مضموناً واحداً من المضامين التي صاغها من كتبها أو ألقاها.
أفلا يحق لنا بعد هذا كله أن نطرح كل هذه الأسئلة، وأن نقول إن ما يحدث على الساحة العربية هو ثورة على الثورة؟!
كاتب إماراتي