كلما مررت أمام ذلك المنزل، رأيت مسناً قابعاً في خيمة نصبها له أبناؤه في طرف ساحة المنزل، وعلى يمينها تقع فيلا ضخمة مكونة من دورين يبدو أن أبناءه وأحفاده يسكنونها.. كلما مررت رأيته جالساً على كرسيه يحدق إلى الأسفل وحيداً، ويبدو المنزل كأنه قد خلا من أهله وساكنيه. ولا غرابة في ذلك، فعندما ترى ذلك الصرح الكبير (الفيلا) فلا تستعجب خلو المنزل، وهذه إحدى سلبيات الحياة العمرانية التي بدأت تغزو مجتمع الإمارات في الفترة الأخيرة. فهذا المبنى كفيل بأن يحجب الجميع من وراء جدرانه الضخمة، إلا بضع خدم يزرعون ساحته ذهاباً وإياباً!
منذ فترة حدثتني جارتي كذلك عن ذلك الشايب الذي تراه يومياً أثناء تريضها، حيث يصادفها مسن يدفعه خادمه الآسيوي على كرسيه المتحرك وحيداً، وتقول: إنه تبدو على ملامح ذلك الشايب مظاهر العزلة والأسى، فيتخيل من رآه أنه يعيش في عالم منعزل، وعندما يرى جارتي تتهلل أساريره ويبدأ بالتحية والسلام، وكأنه بالفعل انقطع العالم عنه وانقطع هو الآخر عن العالم. لا يمكنني كذلك أن أفوت مشهد أولئك الشواب المنحدرين من أصول عربية، حيث يتركهم أبناؤهم وحيدين على كراسي الاستراحات المنتشرة في المراكز التجارية، يحدقون يميناً ويساراً، يتخلل نظراتهم استحياء واستغراب من هذا العالم الغريب عليهم، بينما ينشغل الأبناء والأحفاد برحلات تسوق في غياهب المراكز التجارية.
تظهر مشاعر الوحدة والعزلة كخيط نفسي مشترك ما بين المشاهد الثلاثة السابق ذكرها، كما يبدو أن الفيلا والمراكز التجارية والحياة المادية الصاخبة، نجحت في فرض مظاهر الغربة التي يعيشها كبار السن من خلال تلك المشاهد. إذاً هي المادية بكل صخبها ومظاهرها وتغييراتها السريعة وما صاحبها من تحول في منظومة القيم والأخلاق الاجتماعية، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن عزل هذه الفئة عن باقي فئات المجتمع، على الأقل على المستوى النفسي والاجتماعي.
منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أحدث نفسي عن ضرورة الكتابة عن شوّابنا الكرام، وذلك لعدة أسباب، منها ما لمسته من غياب هذه الفئة عن المجتمع في معظم صوره، أما السبب الآخر فيرجع إلى ارتباطي بكبار السن من خلال عملي في تفريغ الرواية الشفهية لمجموعة كبيرة منهم، حيث تمثل هذه الرواية مصدرا مهما لتوثيق تاريخ المنطقة لا يمكن أبداً إغفاله أو إهماله، خاصة في كتابة تاريخ الإمارات الاجتماعي في بدايات القرن العشرين. أما السبب الثالث الذي استدعاني للكتابة عن هذا الموضوع، فيرجع إلى ظهور مبادرة التلاحم المجتمعي التي بدأت تشغل حيزاً مهماً في أجندة الإعلام والوزارات الاتحادية في الفترة الأخيرة، حيث تهدف هذه المبادرة.
كما هو معلن عنها، إلى إرساء مفاهيم التماسك الأسري والتكافل الاجتماعي، من خلال استلهام القيم المجتمعية الأصيلة المتجذرة في المجتمع الإماراتي؛ لتتبوأ مكانتها مرة أخرى في قلوب وعادات الناس، بعد موجة الانفتاح الاقتصادي السريع التي أثرت على تلك القيم بعادات غريبة ودخيلة على مجتمع الإمارات. لنرجع مرة أخرى لمناقشة ظاهرة غياب فئة كبار السن عن المجتمع، إذ أعتقد أن التغيب ترجع أسبابه لعوامل مباشرة وغير مباشرة، فحركة التطور التي بدأت تجتاح المجتمع في الفترة الأخيرة، كانت سريعة جداً وهي تسير في اتجاه واحد وهو الاتجاه المادي، مما انعكس بدوره على تغيب هذه الفئة، وذلك لعدم استطاعتها مجاراة حركة التطور والتغيير السريعة.
كما أن المجتمع أصبح مجتمعاً يلائم ميول الشباب واتجاهاتهم العصرية، ومعظم المؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام تصب في منحنى واحد وهو خدمة ذلك المجتمع الشاب، وهذا ما ذهبت إلى تأكيده الدكتورة فاطمة الصايغ في إحدى مقالاتها السابقة. فالشوّاب نتيجة هذا التطور والإقصاء الذي مورس عليهم، حتى وإن كان في حالات كثيرة غير متعمد، أصبحوا إما معزولين في المنازل مع بعض العمالة الآسيوية للقيام بخدمتهم، أو يواجهون هذا الواقع بالهروب إلى عوالمهم الخاصة بهم والتي تذكرهم بزمنهم الماضي في بيئاته الحية. يبقى في الأخير البحث عن بعض الحلول لمواجهة ما يمكن لنا تسميته بالخلل، الذي بدأ ينخر في جدار الأسرة الإماراتية.
وهو الخلل في طبيعة العلاقة بين جيل الشباب وجيل الشواب أو الأجداد. فلابد من العمل على إعادة ترميم طبيعة هذه العلاقة، لكي تأخذ مجراها الصحيح المستمد من طبيعة المجتمع وعاداته قبل ظهور موجة الانفتاح الاقتصادي. فمبادرة التلاحم المجتمعي، وخاصة في ما يتعلق بمحور إرساء مفاهيم التماسك الأسري، تأتي لتأخذ زمام المبادرة في هذا التوجه، وذلك على سبيل المثال؛ من خلال تشكيل لجان على مستوى وزارة التربية والتعليم ووزارة الشؤون الاجتماعية، تقوم بتنسيق حملات وفاء تطرق من خلالها الأبواب على كبار السن، في محاولة لخلق علاقة جديدة بين الأجيال الشابة وفئة الأجداد.
كذلك لا مانع من إطلاق جائزة للأسرة المثالية في رعاية المسن، وتأسيس مجالس في الأحياء، على سبيل المثال، تضم كبار السن في كل حي، فهذا النوع من المجالس يعتبر مدارس حية للأجيال الشابة يتم من خلالها نقل خبرات وتجارب كبار السن، كما يحقق نوعا من التكافل الاجتماعي والأسري.
كذلك يمكن استقطاب كبار السن في وظائف تمكنهم من تقديم خبرة واستشارة، خاصة في موضوعات تتطلب معلومات وخبرات تاريخية. الحلول الفوقية كثيرة ومهمة، ولكن الأهم هو التربية داخل الأسرة نفسها، وذلك من خلال تعليم الآباء لأبنائهم ضرورة احترام كبار السن وتقديرهم وحسن معاملتهم، وإعادة الاعتبار والتقدير لهذه الفئة التي عاشت الزمن الصعب، كما عاشت فترة التحولات المهمة التي شهدتها الدولة، وأقل ما يمكن تقديمه لهم هو منحهم أوسمة شرف وتقدير، وذلك من خلال حسن معاملتهم وإكبار شأنهم.