مسلسل حروب الطاقة مستمر

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، انطلقت سياسة العولمة بسرعة غير عادية، وخاصة بعد أن أصبحت سياسة اقتصاد السوق هي السائدة في كل أنحاء العالم، حتى في الدول التي بقت رافعة الرايات الشيوعية في السماء بينما نظام السوق الحر يدير عجلة إنتاجها على الأرض، مثل الصين وغيرها، ومع هذا الزحف الكبير لاقتصاد السوق وتسارع الدول للدخول في اتفاقيات التجارة الحرة، زادت سرعة عجلة الإنتاج في الكثير من دول العالم، وخاصة في دول العالم الثالث التي كانت عجلة الإنتاج فيها بطيئة للغاية أو شبه متوقفة، وساعد على ذلك انفتاح الدول الصناعية الكبرى على الدول الصناعية الجديدة بعد أن زال شبح الشيوعية والخوف من سيطرة الدولة وقوانين التأميم، ولاحظنا انتقال الصناعات الكبيرة من الدول الصناعية الكبرى إلى الدول الأصغر والجديدة في عالم الإنتاج، فباتت دولة مثل الصين تنتج وحدها ما يقرب من ‬60 بالمئة من إلكترونيات الدول الصناعية الكبرى بموجب تراخيص إنتاج من الشركات الغربية واليابانية.

وانتشر هذا الأمر في دول أخرى مثل ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وتايلاند وتايوان وكوريا الجنوبية وغيرها، وهذا ساعد بشكل كبير على زيادة سرعة عمليات الإنتاج في العالم واتساع رقعة الدول المنتجة وتضاعف عدد المصانع بشكل كبير، هذا الوضع الجديد على الساحة الاقتصادية العالمية أشعل في نفس الوقت الصراع على مصادر الطاقة اللازمة لهذه العمليات الإنتاجية الكبيرة ولتشغيل الآلة الصناعية العالمية التي زاد حجمها خلال العقدين الماضيين أكثر من مرتين، مما يعني ازدياد الطلب على مصادر الطاقة بنفس النسبة من أجل تشغيل هذه العجلة الإنتاجية، لدرجة أن دولة واحدة مثل الصين زاد استهلاكها للطاقة خلال العقدين الماضيين بنسبة تجاوزت الثلاثمئة في المئة، كما دخلت دولة أخرى، وهي الهند، على طريق الإنتاج العملاق، ومثل هاتان الدولتان العملاقتان تفتقران لمصادر الطاقة الطبيعية من النفط والغاز وغيرها وتعتمدان بشكل كبير على الاستيراد من الخارج.

في ضوء هذا الوضع ظهر الصراع العالمي على الطاقة بشكل واضح على الساحة الدولية، هذا الصراع الذي أخذ أشكالا عدة، منها التنافس على الأسواق بتقديم المساعدات والاستثمارات في مشاريع التنمية في الدول المنتجة للطاقة، وهذا ما فعلته الصين وروسيا والهند وبعض دول أوروبا، ومنها الدعم السياسي والعسكري لمن يحتاج إليه من الدول المنتجة للنفط والغاز مثل إيران وفنزويلا وروسيا ودول بحر قزوين وغيرها، وهي الدول التي تلقى بعضها دعما سياسيا والبعض الآخر دعما عسكريا أو الاثنان معا من دول أخرى مثل الصين ومعظم دول أوروبا الغربية مقابل الحصول على مصادر الطاقة من النفط والغاز.

أما الشكل الأخير من الصراع على مصادر الطاقة، وخاصة النفط، فهو الحرب، وهو الشكل الذي احتكرته الولايات المتحدة الأميركية وحدها دون غيرها، واتخذت لها حلفاء مقربين مثل بريطانيا، وحلفاء داعمين ومؤيدين في أوروبا وشرق أسيا واليابان وغيرها، ومن المعروف أن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم باعتبارها صاحبة أكبر عجلة إنتاج صناعي في العالم وأكبر ترسانة عسكرية ممتدة في كل أنحاء العالم، وأكبر أساطيل جوية وبحرية مدنية وعسكرية، وهذا يعني بالضرورة أنها لابد أن تحصل على نصيب الأسد من منتجات الطاقة العالمية، خاصة إذا عرفنا أنها وحدها بشركات نفطها العملاقة تحتكر ما يقرب من نصف السوق العالمية للنفط والغاز، ولا يجوز لدولة بهذا الحجم العملاق أن تترك نفسها عرضة لتقلبات أسواق الطاقة، ولا حتى أن تدخل في منافسات مع دول أخرى على هذه الأسواق، فالولايات المتحدة لا تقبل، وليس من أخلاقها ولا سياساتها، أن تشارك باستثماراتها في مشاريع تنمية وتعمير في دول نامية، مثلما تفعل الصين والهند واليابان وغيرها، من أجل الحصول على النفط والغاز، إنها لا تريد حصصا محددة في الأسواق بل تريد نصيب الأسد، وهذا لا يتأتى لها إلا بالسيطرة التامة على منابع الطاقة الكبيرة، وهذا ما فعلته في العراق.

حيث وضعت يدها على بحر النفط العراقي، وأصبحت هي التي تعطي منه، ليس فقط للآخرين بل وحتى للعراقيين أنفسهم، وما تفعله الآن في ليبيا، رغم كل التصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية لا يعدو كونه ساحة أخرى من ساحات حروب النفط والطاقة التي تشعلها واشنطن ولندن تحت العديد من المبررات والشعارات غير المقنعة، وحتى لو لم يصدر مجلس الأمن قراره رقم ‬1973، وحتى لو لم يبادر العرب أنفسهم بطلب تقديم العون والمساعدة لإنقاذ الشعب الليبي من بطش القذافي، فإن الحرب كانت قادمة لا محالة، وما الإسراع بالاعتراف بالنظام الحاكم البديل لنظام القذافي رغم ضبابية الأوضاع على الساحة في داخل ليبيا إلا دليل على أن التخطيط معد مسبقا.

إنها الحرب من أجل مصادر الطاقة، وما حدث في العراق ويحدث الآن في ليبيا يعطي مؤشرات على استمرار هذه السلسلة من الحروب، وهاهو هوجو تشافيز في فنزويلا يتوقع أن يأتي الدور قريبا على بلاده في هذا المسلسل من الحروب، كما أن إيران ليست مستبعدة من هذه الحروب، والنظام الإيراني يعلم ذلك جيدا، وربما هذا ما يدفعه ويحمسه للإسراع لامتلاك السلاح النووي لردع هذه المخططات.

 

Email