ليست السعادة مطلبًا أسطوريًا مضى زمانه، أو حلمًا غير قابل للتحقق يحق لنا أن نشعر باليأس تجاهه، على الرغم من كل ما نسمعه ونراه طوال الوقت من إحساس الجميع حولنا ـ ونحن معهم ربما ـ بالتعاسة وبعدم الرضى، فالواقع هو أننا لا نعرف من أين تُؤكَل الكتف، ولم نتعلم ـ في خضمّ لهاثنا خلف متطلبات هذه الحياة الغارقة في مادّيتها ـ كيف نقتنص اللحظات المناسبة ونجعلها جزءًا من مكنز ذكرياتنا الجميلة، التي سنستعيدها فيما بعد مع أبنائنا وربما مع أحفادنا أيضا، بدلا من أن تكون منطقة مظلمة على خارطة مسيرة حياتنا، ستبدو شديدة السواد كلما ابتعدنا عنها زمنيا.
بسيطة جدا هي الأشياء التي تسعدنا، فالسعادة لا تحتاج إلى خبرة أو مهارة من أي نوع، وهي لا تحتاج ـ في رأيي الشخصي ـ إلى أكثر من استعداد نفسي لها، وبعض الناس يتقنون فنّها بشكل حِرَفي، مع أنها أيضا تقع خارج هذا التصنيف، إلا أنه يوجد أناس مهيئون دائما لأن يكونوا سعداء، وحين نراهم نظنهم سعداء بالفطرة، لكن الأمر ليس كذلك تماما، ولكنهم ربما يمتلكون ذلك الحدس الذي يجمعهم مع السعادة دون كثير عناء، في حين يتقن البعض الآخر العكس تماما، ويعرف كيف يفلت فرصة للسعادة من بين يديه، بمهارة لا يُحسَد عليها في مثل هذه الحالة.
وهناك من يتقلب على أمواج هذه الحياة ما بين سعادة وتعاسة، يعرف الشعورين كما يعرف نفسه، لكنه لم يعرف أفضل الطرق لتكثيف لحظات السعادة، أو مضاعفتها، أو للتخلص من لحظات التعاسة، أو التقليل منها.
بواعث السعادة قد تكون مادية وقد تكون معنوية، لكن لكل منها لذتها، كما لكل منها وقتها وحاجتها النفسية التي تجعلها مناسبة في وقت ما أكثر من غيرها؛ ففي الوقت الذي قد يظن أحدهم أنه سيحصل على السعادة إن حصل على مبلغ مالي يحتاجه في شأن من شؤون حياته، فإن شخصًا آخر تكفيه ابتسامة من محبّ كي يشعر أنه أسعد إنسان في العالم، ولو جاء ذلك المبلغ الذي يتمناه شخص آخر غيره ووُضع بين يديه، فإنه لن يشعر بالسعادة ذاتها التي سيشعر بها حين يحصل على ابتسامة من شخص محبّ، ليس لأنه لا يحب المال، أو لا يريده، فهذا ليس أمرا منطقيًا، خصوصا في هذا الزمن، لكن لأن المال في تلك اللحظة النفسية التي يعيشها لا يقدم له ما يحتاجه حقيقة كي يكون سعيدًا.
بالطبع لا توجد سعادة مطلقة، ولا يوجد إنسان سعيد دائما وأبدًا، فالنفس البشرية لا بد أن تلفها المشاعر المختلفة، المتناقضة والمتضاربة، لكن جميل أن يسعى الإنسان لأن تغلب عليه حالات السعادة، فهذا أفضل من أن يغلب عليه عكسها. فقد أشارت عدة دراسات علمية إلى أن السعادة تؤثر تأثيرًا إيجابيًا على صحتنا النفسية والعضوية، وأنها قد تكون أحد العوامل المؤثرة في إطالة العمر. كما ذهب بعض الأبحاث العلمية إلى أن المرضى السعداء، أو الذين يستطيعون أن يكونوا سعداء أثناء مرضهم، ولديهم قدرة على التفاؤل بالشفاء، والأمل في الحياة، يشفون بالفعل على نحو أسرع من أولئك الذين يتملكهم الحزن، أو التشاؤم!
الســعادة مرتبطــة بالتفاؤل، والتعاسة مرتبطة دون شك بالتشاؤم، وكلا هذين الثنائيين يؤثران بشدة في صحة الإنسان، ولهما دور لا يمكن إغفاله في بعض الأمراض، كالقلب والسكري، وهما من الأمراض الأكثر انتشارًا في هذا الوقت الذي يميل الكثيرون فيه إلى التعاسة والتشاؤم، أكثر من السعادة والتفاؤل، على الرغم من كل التسهيلات والحياة المرفهة التي يعيشها إنسان اليوم، إلا أن التاريخ أثبت أن الإنسان الكادح أكثر استمتاعًا بالحياة وشعورًا بلذتها من الإنسان المرفّه، ويمكن أن يُقاس ذلك على شعوب بأسرها، وليس على أفراد فقط.
وإذا كان للسعادة كل هذا التأثير، فمن الضروري أن ننطلق نحوها بكل طاقتنا، وأن نسعى إلى جعل حياتنا تنبض بها إلى أقصى حد نستطيعه، فكل واحد منا يمكنه أن يكون على موعد مع السعادة في أي لحظة، إن أراد ذلك. قد نحتاج فقط إلى امتلاك حاسة شم جيدة، تسمح لنا بالتعرف إلى تلك اللحظة المناسبة، كي نُحسِن التصرف فيها، واقتناص الفرصة التي قد تتكرر يوما ما، لكن لا نعلم متى وأين!