يحدث كثيراً أن نشعر بشيء من الانبهار من قدرة بعض الناس على تجويد أعمالهم وإتقانها، نتيجة اهتمامهم بكل تفاصيلها، لدرجة أننا نتمنى في كثير من الأوقات أن نكون على ذلك القدر من الدقة، ولكنها خصلة لا يتحلى بها إلا قلة ممن يعيشون حالة الشغف تجاه ما يقومون به. هذا ما يمكن أن نطلق عليه اسم «الإتقان»، وهي خصلة حثّ عليها الرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حين أوصانا إذا عملنا عملاً بأن نتقنه، وذكر أن ذلك أمر يحبه الله، ولكن كثيرين منا ـ على الرغم من ذلك ـ لا يستطيعون التحلي بهذه الخصلة الحميدة.
ويحتج البعض بأنهم يقومون بأعمال كثيرة تتطلب سرعة في الإنجاز، وأحياناً بكميات كبيرة أيضاً، وهذا يجعل درجة الإتقان تقلّ في عملهم، أي أن السرعة قد تعني بشكل من الأشكال عدم القدرة على الإتقان كما ينبغي. ولكن الحقيقة ليست كذلك، فليست السرعة عكس الدقة والإتقان دائماً، خصوصاً إذا كان الشخص معتاداً على القيام بهذا العمل، أو إذا كان يمارسه كل يوم. ويمكن أن نأخذ مثالاً من الحياة اليومية البسيطة، وهو عمل الخباز، على سبيل المثال، إذ يجب عليه أن يعد كمية كبيرة من الخبز في أوقات محددة يومياً حتى يلبي حاجة الناس، ولكن هذا لا يعني أن يفرط في خصلة الإتقان تحت ضغط عاملي الوقت والكم! ومن الطبيعي أنه إذا قام بذلك مرة أو مرتين سيفقد زبائنه إلى الأبد، لأن الخيارات كثيرة، والناس أصبحت تبحث عن الجودة في كل شيء، سواء كان في المواد الاستهلاكية أو في الخدمات، أو في أي شيء آخر.
ومن هذا الباب أصبح الحديث عن الجودة شائعاً ـ مؤخراً ـ في العالم العربي بعد أن وفد إلينا من الغرب، على الرغم من وجود جذور قوية له في تراثنا الإسلامي، ومع ذلك لا نزال متأخرين جداً عن اللحاق بركبه. إلا أنني لا أقصد في حديثي هنا الجودة بهذا المعنى، بل أقصد حرص الشخص نفسه على إتقان ما يقوم به من أعمال، في البيت والعمل وفي الأعمال التطوعية وفي ما يمارسه من هوايات، وسعيه لأن يقدم نفسه من خلال أي عمل ـ سواء كان صغيراً أو كبيراً ـ بمستوى يليق به.
ولعلنا نلاحظ على نحو متكرر، جرأة البعض على تقديم عمل كبير في زمن أقل بكثير مما يحتاجه حقيقة، وهذا فيه استهتار بالعمل وبمن يُقدم إليه هذا العمل أيضاً، وكذلك فيه مجازفة باسم الشخص الذي يقدم العمل. ويمكنني أن أضرب في هذا السياق بعض الأمثلة: إذ أذكر أنني قرأت كتاباً أشار مؤلفه في نهايته إلى أنه لم يستغرق منه سوى مدة بسيطة، ذكرها ولا حاجة لذكرها هنا، مع أن الطبيعي أن كتاباً كذلك الكتاب يحتاج إلى سنة على الأقل ـ ابتداءً من الكتابة الأولية ووصولاً إلى النسخة المطبوعة ـ كي يُنجز على مستوى مقبول، ولسوء الحظ فإن الكاتب ظن أن هذه المدة الزمنية القصيرة بكل المقاييس، ستُحسب له لذلك ذكرها، لكن الواقع هو أن مثل هذا الأمر يُحسب عليه، خصوصاً مع وجود كم من الأخطاء التي لا يمكن تجاوزها فيه، وذلك بسبب عدم إعطائه نفسه فرصة للكتابة برويّة وتأنٍّ، وللمراجعة بعينه الشخصية وبعيون أخرى صديقة ولكن ناقدة.
الأمر نفسه حدث مع عدد من المسرحيات التي نحضرها بين حين وآخر، ويتضح على نحو مباشر جداً من خلال العرض، أن النص لم يأخذ وقته لينضج، كما أن فترة التدريب (البروفات) لم تكن كافية، لأنهم لم يبدأوا العمل إلا متأخرين جداً، في استهتار تام بالجمهور الذي سيُعرض عليه العمل، وأحياناً بلجان التحكيم التي ستقيّم العرض، إذا كان في سياق مسابقة ما! ومثل هذه الأمور لا يمكن أن نجد لها تفسيراً مقبولاً، سوى عدم نضج بعض المفاهيم الأساسية لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع.
من المهم أن نخوض سباقاً مع الزمن، ولكن ليس على حساب الإتقان والجودة، لأن ذلك لن يخدم العمل، وسيجعله بعيداً عن الناس، وسيجعل الأبعد أقرب لهم، لأن الكل يبحث عن الجودة والإتقان، حتى لو كان على مستوى التفاصيل الشكلية، فالجمال الشكلي مطلب مهم أيضاً، ولا يجب علينا تجاهله بحجة الاهتمام بالمضمون.
والمهم هو التجويد والإحسان في كل ما يقوم به المرء، حتى يكون متميزاً ومتقناً، وتكون المسافة بيننا وبين الآخرين أقرب من خلال ما نقدمه لهم، كما سيكون لما نقدمه قيمة كلما كان أكثر إتقاناً وتجويداً.