حالة البدون في دول الخليج

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا نُقصي فئة من الناس في المجتمع ونسميهم «البدون.. »؟ وهل نعني بمناداتهم بالبدون، أنهم دوننا في الامتيازات التي ننعم بها؟! وبمعنى أكثر وضوحاً؛ نحن شيء وهم لا شيء..؟! هذا المصطلح الجارح الذي يمس كرامة الإنسان، معمول به في منطقة الخليج، ومنبعه الكويت، حيث تداعت عليها بعد استخراج النفط من أراضيها، أُناس معظمهم من دول مجاورة كالعراق وإيران، وشاء الكويتيون لظروف خاصة بهم، أن يعمدوا إلى إقصاء هؤلاء المهاجرين، والتمسك بالقبلية في حالة «البدون» خاصة، واعتبار أن من لا ينحدر من قبيلة جاءت من صحراء نجد، فهو ليس بالكويتي الأصيل، رغم أن الجنسية الكويتية يحملها من ليس من هذه القبائل النجدية، وقد يشكل هذا الغير عدداً لا يقل عن نصف الكويتيين، إن لم يكونوا أكثر من ذلك..

ورغم أن الحكومة الكويتية تحاول جاهدةً تذويب الفئوية وإصهارها في المجتمع المدني، الذي هو أساس قوامة أي مجتمع متحضر اليوم.. بعد أن بات واضحاً أن التمسك بأهداب القبلية والانتمائية الفئوية والطائفية، جلب للمجتمع الكويتي المتاعب، وكلنا قد سمعنا بما فعله بعض القبليين قبل عام أو نحو ذلك، من تحدٍ للحكومة وسلطات الأمن، علماً أن القبلية والطائفية وما شاكلهما، شيء غير مستساغ في المجتمع المدني المعاصر.. وهي سمة من سمات التخلف الاجتماعي..

وبالرغم من أن إطلاق اسم «البدون» على جماعة من البشر، أمر مكروه مدنياً وأخلاقياً، ناهيك عن المأساوية التي تعيش فيها هذه الفئة من الناس، لكن لا بد من تفهم وجهة نظر حكومة الكويت، وحكومة الإمارات التي تأتي بعد الكويت في عدد البدون فيها..

فهؤلاء البدون جاؤوا إلى هذين البلدين، أو قل الغالبية العظمى منهم، في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، تاركين بلدانهم الأصلية، لأسباب قد تعود في الأصل إلى ضنك العيش في البلدان التي هاجروا منها، ولم تكن وراء هذه الهجرة أي أهداف سياسية، كما حاولت تصويرها فئات راديكالية متعصبة في الكويت وبعض مناطق الخليج.. وقد ثبت بطلان نظرية هؤلاء الراديكاليين المتطرفين بعد مضي سنين على هؤلاء «البدون»، ومن البدون من وقف موقفاً مناوئاً ومقاوماً لغزو الكويت من قبل النظام العراقي البائد، أكثر من جملة من المتطرفين أنفسهم الذين تسللوا هم وأسرهم إلى خارج الكويت هرباً من بطش الغزو..

ويقول المتخوفون أو المترددون من تجنيس فئة «البدون»، إن الكثير من البدون يغلب عليهم التطرف الديني الطائفي، وأنهم بشكل أو بآخر يعيشون بأفكارهم وأحاسيسهم ضمن الطائفية، وأن هناك بلدين خليجيين، هما البحرين والكويت، يعانيان من التفرقة الطائفية بسبب التركيبة غير الانسجامية للمجتمع، وخاصة في البحرين، وسيزداد الطين بلة لو أضيفت إلى التركيبة فئات أخرى تميل إلى الطائفية، مما قد يزيد الحالة احتقاناً وسوءاً..

وجهات النظر هذه من المتخوفين والمترددين كما قلنا، لا ينبغي تجاهلها، بل علينا أن نصغي إليها ولكن بحذر، لئلا يطغى التهويل والمبالغة على الأمر، وتتسبب في خلق أجواء من الهواجس، بحيث تتعمّق المشكلة وتزداد الهوة اتساعاً..

المجتمع المدني هو الحل.. وفكرة المجتمع المدني لا تحتاج إلى تفسير فلسفي، فالتطبيق والممارسة في المجتمعات المتقدمة جعلت هذه الفكرة يعرفها رجل الشارع العادي، ومن خلال هذا التطبيق وهذه الممارسة يعرف كل من يعيش في هذه المجتمعات، ما هو الذي عليه، وما هو الذي له.. وعلينا أن ندرس حالة هذه المجتمعات وكيف تدار شؤونها، فنأخذ من الإيجابيات أحسنها، وأحسنها هو وجود العدالة الاجتماعية، والقضاء المستقل الذي لا سلطان عليه، والقوانين والنظم التي لا تفرق بين الناس بسبب انتماءاتهم العرقية والطائفية أو أية انتماءات أخرى، ويحصل الناس على حقوقهم بالقسطاس المستقيم، ويُدار المجتمع بالأسلوب المدني، بعيداً عن الأيديولوجيات القومية والدينية، والفئوية الخاصة..

أعرف شخصاً عراقياً هاجر إلى بريطانيا في بداية السبعينات من القرن الماضي، ومنذ وصوله عمل هناك ونجح في عمله في تجارة الأملاك، ولكن أصدقاء السوء مالوا به إلى طريق غير سوي، ففقد ما يملكه وعاش بعدها على إعانات التأمين الاجتماعي، ويعاني هذه الأيام من أمراض الشيخوخة، ومنها مرض «الباركنسون» أو الشلل الرعاش كما يسمى في لغة الطب.. والسؤال هو ماذا فعلت له الحكومة في بريطانيا، أو ماذا فعل التأمين الاجتماعي التابع للحكومة؟!.. والجواب هو، أنهم يدفعون لهذ الرجل الذي يعيش وحيداً، مبلغ ثمانين جنيهاً إسترلينياً كل أسبوع، ويعالج في أي مستشفى يذهب إليه مجاناً، وتأتيه ممرضة بصفة يومية (تحمّمه)، وتعد له طعامه، وتغسل له ثيابه، وتنظف بيته ـ الذي هو بيت الحكومة، ويسكنه صاحبنا بالمجان ـ بالإضافة إلى توفير كمية من الأدوية والضمادات والكمادات، وأدوات التنظيف بشكل يومي مستدام..

ما يجري لصديقنا العراقي ـ شفاه الله ـ يجري لكل بريطاني، بغض النظر عن أصله وفصله ودينه ومذهبه ولونه.. وليس هذا النعيم يقتصر على البريطاني الذي يحمل الجنسية البريطانية، والتي تُعطى لمن يطلبها بعد إقامة ست سنين، بل حتى على أي فرد يُعطى رخصة العمل في بريطانيا، حيث إذا فقد عمله تقوم الحكومة بإعطائه معاشات تأمين حتى يحصل على عمل!

وخلاصة القول، إنه إذا توفر للإنسان هذا العيش الكريم الذي أتينا على ذكره، في ظل عدالة اجتماعية يتساوى فيها الناس، ولا تفريق بينهم في شيء، ومثل هذا العيش، ومثل هذه العدالة والمساواة، يمكن لأي دولة خليجية أن توفرها للناس، وهناك جزء كبير من هذه العوامل تسود المجتمعات الخليجية بالفعل.. عند ذلك، لا داعي لأي تخوف من إعطاء الجنسية لمستحقيها حسب القوانين المرعية.. وأي مواطن بعد ذلك لا يكون ولاؤه التام لوطنه، ولمن وفروا له هذا العيش الكريم، فإنه يكون في حالة من مرض خاص ويحتاج إلى علاج خاص، ويُعتبر من الحالات الشاذة، والشاذ ليس عليه قياس..

 

Email