من أكثر المفردات تداولا على ألسنة الجميع مفردة «الوقت»، على الرغم من أن أغلبية الناس يتصرفون على نحو يوحي بأنهم لا يعرفون معناها حقيقة، لكنهم يستمتعون باستخدامها، واتخاذها في أحيان جمة «شماعة» يعلقون عليها تخاذلهم أو فشلهم، أو تقصيرهم عن القيام بما يتوجب عليهم القيام به.
هناك أشياء كثيرة تتطلب منا أن نخصص لها وقتا وفيرًا كي تتم، أو كي تُنجز على الوجه الذي يجب أن تكون عليه، ومع ذلك فإننا لا نحسب حساب هذه الفجوة بين المطلوب والمتاح، ولا نحسن التعامل مع الوقت الذي أصبح أشبه بعملة نادرة علينا أن نعرف كيف ننفقها، لأننا إن فقدناها لا نستطيع أن نستعيدها أبدا.
كثير ما نشعر بالحماس للقيام بأنشطة معينة، كتعلم لغة جديدة، أو رياضة جديدة، أو فن جديد، أو تعلم كتابة أحد الفنون الأدبية، أو اكتساب مهارة ما، ونتمنى لو أننا نستطيع تعلمها وبلوغ درجة الإتقان فيها بلمح البصر، وهو ما قد يكون ممكنًا لو كنا أبطال إحدى القصص الخيالية.. ويظل هذا الإلحاح مسيطرًا علينا قبل أن نبدأ، ونستعجل وقت البداية، لكننا بمجرد أن نبدأ في التعلم يأخذ الحماس بالخفوت تدريجيا، أو نشعر سريعًا باليأس الشديد من قدرتنا على تعلمها وإتقانها، وكأن تلك الرغبة الجارفة لم تلفنا وتستغرق كل تفكيرنا يوما. ويمكن لأي واحد منا أن يتذكر في مثل هذا السياق عدة أفكار ومشاريع كان قد بدأ فيها، ثم طوتها السنون وكأنها لم تكن.. وكأنها لم تمر في ذهنه أبدا.
هذا ما يحدث في حالات كثيرة، ربما يعود بعضها إلى أن الرغبة لم تكن صادقة في الأساس، أي أنها ربما تكون مجاراة لظرف ما أو مجاملة لشخص ما، لكن في كثير من الأحيان يعود السبب الأكبر ـ من وجهة نظري ـ إلى أننا لا نخصص لأنفسنا الوقت الكافي كي نقوم بما نرغب في القيام به. فنحن نستطيع فعل أي شيء لو التزمنا به لوقت كافٍ، كما تقول هيلين كيلر، إلا أننا دائما على عجلة، لا نصبر على شيء واحد لوقت كافٍ. كما أننا نسمح لكثير من العوامل الخارجية ـ وأحيانا الداخلية ـ أن تؤثر في اختياراتنا ورغباتنا وقراراتنا؛ فمن الطبيعي أن يشعر أي إنسان يبدأ في تعلم شيء جديد، بالتشتت والضياع، وبعدم القدرة على المواصلة، والرغبة في الانسحاب، وأحيانا يطغى إحساس بعدم الثقة في النفس، وفي القدرات الذاتية.
ومثل هذه الأمور التي يجب أن تبقى داخل النفس لا تتجاوزها، قد تتسرب بأي شكل إلى الخارج، بالقول أو بالفعل أو بالسلوك، وحينها ستختلف ردود فعل المحيطين، ما بين مشجع ومحبط، وهذا الأخير ليس شرطا أن يصدر عن سوء نية؛ فكثير من الأمهات ـ على سبيل المثال ـ يحاولن بإصرار ثني أبنائهن عن الاستمرار في تعلم فن ما، أو رياضة ما مثلا، لأنهن يشفقن عليهم من التعب الذي يجدونه أثناء القيام بها، أو لأنهن يعتقدن أنها صعبة وخطرة عليهم، أو لأنهن يرغبن في أن يبقى أبناؤهن في المنزل أكثر، وهكذا.. تتعدد الأسباب التي تؤدي في النهاية إلى نتيجة واحدة إن وجدت آذانًا تستمع لها، لكن دون سوء نية.
ومن الممكن أن تكون الأسباب مصدرها الداخل وتجد استجابة سريعة من الشخص نفسه، كالإحساس بالعجز، أو الكسل، أو الملل، أو اليأس. ومثل هذه الأحاسيس طبيعية وواردة، لكن الشخص الذي يعتقد أنه أحسن اختيار الشيء الذي يريد فعله أو تعلمه، يستطيع تجاوزها، ومواصلة طريقه كأنه لا يشعر بشيء منها. أما لو استمع إلى الصوت الداخلي المحبط، الذي غالبًا ما يبدأ في لحظات التعب أو الإرهاق الشديد أو في حال وجود مغريات أخرى، فإنه بذلك يعلن نهاية ما بدأه، قبل أن يتمه.
ولو أمسك أحدنا بورقة وقلم، وحاول حصر كل الأنشطة والأعمال التي فكّر يوما في القيام بها، بحيث لا يسجل إلا تلك التي اتخذ خطوة أو خطوات فعلية في سبيل تحقيقها، ولكنه ـ لسبب من الأسباب ـ لم يتمها، ثم طواها النسيان وكأنها لم تكن، سيجد أنها كثيرة، وأن القائمة أطول بكثير مما يظن، وسيعتريه الندم والأسف على ملفات حياته المفتوحة على صفحاتها الأولى، وتلك التي بلغ فيها المنتصف تقريبًا، وفيها كلها أجزاء متفرقة من أحلامه التي منّى نفسه بها، ثم تركها كما هي وأعطاها ظهره منشغلا بغيرها.. مع أنه كان يستطيع إنجازها لو منحها الوقت الكافي، وتحلى بالإرادة اللازمة، لتكون جزءًا من مهاراته، أو من ممارساته اليومية، أو من سماته الشخصية.