هل بدأ تاريخ جديد لعالمنا العربي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تسل عنا ولا كيف لقانا.. واسأل التاريخ عنّا والزمانا

في صباح الشرق عدنا أمة.. مثلما كنا على الدنيا وكانا

الشاعر محمود حسن إسماعيل (رحمه الله)

 

نعم.. بدأ تاريخ جديد لعالمنا العربي مذ انشدّت من جديد، الأسماع والأبصار العربية بقوة إلى «قلب الأمة» النابض بالحياة، والعالم كله يرقب لأول مرة هذه الملايين العربية، وهي ترقب وتتابع سلسلة التغييرات التي طال موعدها، وتأخر انبثاقها..

 وبدأ التاريخ يغّير نفسه، وهو يسير على خطوط متوازية مرة، ومتعرجة أحياناً.. المسألة ليست في نضوج واقع عربي متهرئ، كان مؤهلا للانفجار لأسباب نعرفها جميعا وكتب الناس عنها طويلا، ولكن الأهمّ هو حدوث مفاجآت أثبتت للعالم كله أن تاريخنا العربي له شراكته، وأن مجتمعاتنا العربية لها نسيج واحد، وليس كما يتشدق البعض من الذين لا يؤمنون أبدا بتكوين العرب الحديث والمعاصر، والذين لا يدركون أبدا أسرار تكوينات هذا التاريخ الذي يسجل اليوم حلقات متصلة، بل وعضوية في طبيعة الأحداث والتشكيلات من مكان عربي إلى آخر.. إنه الالتقاء بعد الافتراق.. إنه التواصل مع حلقات الماضي..

كل هذا وذاك، يعلمنا بما لا يقبل الشك، أن تاريخا جديدا قد بدأ ـ في نظري ـ منذ نهاية عام ‬2009، أي إثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن، وسيلحظ الناس اختلافا مباشرا عما ألفوه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار.. إنني أجد أن إرادة الدولة كانت سابقا أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعليته في الحياة السياسية، وكان على خطأ كبير في التقدير.

وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاش مختلف البدائل التاريخية، بولادة العديد من الإيديولوجيات والعقائد السياسية وقوتها وجبروتها، حتى كنستها اليوم عمليات ما سمي «تغيير العالم»، إذ غدا هذا «المشروع» هو المهيمن على هذا العالم، لا يسمع فيه إلا صوته، ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.

لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية، وأجيال ممثلة بأحزاب ومنظمات وكتل وجيوش وجماعات ونقابات ونخب وهيئات.. فضلاً عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ وطنية وقومية ودينية وأعراف وظيفية ونقابية ومهنية، ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات.. كلها لا نفع أبدا فيها، ولا قيمة لها.

ولم تتمتع بأي نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة وفعل أي شيء.. لأنها غدت جزءًا من تقاليد الماضي المحتقر بسبب عقم أداء السلطات، فغدت تواريخنا في القرن العشرين، بمثابة موروثات مركبة وتالفة، لا دور ولا نفع لها في ظل تغيير العالم المعاصر.

لا بد من التفكير في الأرض العربية جمعاء ومصيرها تاريخياً.. نفكر قليلا، وندع أبناء الأمة كلهم يفكرون ملياً، خصوصاً عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن في القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول.. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت في أية لحظة من زمن جائر، وعلى أيدينا! كيف كانت فكرة الوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطني وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة ودور المثقف والتغني بالإنسان والحريات؟..

أذكر كيف كانت قيمة الأوطان في وجداننا، وهدف التوحّد من أسمى أهدافنا.. والمال العام حرام على من يعبث به، والخيانة لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا، ويكون صاحبها قد سجل نقطة مشوهة في تاريخنا أمام كل العالم وتحاسبه الأجيال على ذلك! علمونا كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات.. وكيف نعتني بالإنسان..

وكيف نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين.. لا يمكن أن يجرّح أحدنا الآخر في دينه ومذهبه وعرقه وثقافته وأسلوب حياته وتفكيره! كنّا نتعامل مع الآخرين بمهارة وحذاقة، من أجل النفع العام والصالح العام، بعيدا عن دكاكين البارود في ساحات الهرج والمرج، ونحرص ألا نعرض أوطاننا للتمزق ووهج الحرائق، إذ ينبغي اتقاء النار بأي ثمن كان.. فمن سيقي حرماتنا وأجسادنا وجلودنا في هذا الزمن الصعب؟

رحم الله الآباء الأوائل، كم كانوا شرفاء يقدسون الوطن والإنسان والصالح العام! كم سجّلت الأجيال الماضية أيضا إنجازات نهضوية وسياسية وثقافية واجتماعية من أجل المستقبل! وكم انسحقت مجتمعاتنا جراء سياسات بليدة وتسلطية قمعية، مارسها بعض الحكام الذين جعلوا من أنفسهم فراعنة وقياصرة وأكاسرة! كم أضاعت جامعة الدول العربية دورها الحقيقي وأداءها في ممارسات شاذة عن تطلعات الأمة، وابتعدت عن تحقيق أمنيات كل العرب!

إن الهزات التاريخية اليوم هي قرع أجراس أمام الأجيال الجديدة، كي تكون ذكية وحرة في اختيار طريقها السليم نحو المستقبل، مستفيدة من تجارب الأمس الصعبة ومتعلمة دروس الماضي بكل إيجابياتها وسلبياتها. إن مجتمعاتنا بحاجة إلى تغييرات وتحولات في تكويناتها وبنيوياتها وأفكارها، وفي أنشطة دولنا ومؤسساتها وأجهزتها، وفق أساليب حديثة تتسق ومنطق العصر..

ولينظروا إلى ما يجري في كل العالم من تغييرات، ويتعلموا من انتصارات بعضها وإخفاقات الآخرين. فهل باستطاعتنا أن نتعلم شيئاً من دروس الآخرين وتحولاتهم الجوهرية، من أجل نفض مجتمعاتنا الراكدة ولتكون مسيرة التاريخ في طريق صحيح؟

 

Email