تناولت في المقالة السابقة مبادرة التلاحم الوطني وضرورة تفعيلها في مجتمع الإمارات خاصة في ظل المستجدات والتغيرات التي بدأت تهب رياحها على المنطقة العربية. فتحصين الداخل أمر غاية في الضرورة، ومبادرة التلاحم الوطني لا تخرج عن هذا الإطار، فهي توفر الوعاء الوطني المناسب الذي سيضم عناوين جميع التفاعلات الوطنية في المرحلة المقبلة.

حظيت هذه المبادرة بزخم سياسي الأسبوع الفائت وذلك عندما قام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بالاطلاع على آلية الحملة الإعلامية التي أطلقتها وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع عبر وسائل الإعلام المحلية. وقامت جريدة البيان مشكورة بعمل استطلاع ضم نخبة من الإعلاميين والأكاديميين والمثقفين بالإضافة إلى الأشخاص القائمين على متابعة مبادرة تفعيل التلاحم الوطني. ويبدو من خلال الاستطلاع أن الجميع متفق على أهمية المبادرة .

وذلك من خلال الإشادات الكريمة والطيبة التي أبداها المشاركون حولها، فجل نتائج الاستطلاع جاءت لتشيد بمجتمع الإمارات وتسامحه وانفتاحه على الآخر، وبالخصال الحميدة التي يتمتع بها الشعب، وبإنجازات الدولة على كافة الصعد. هذا كلام جميل وشكّل عنوانا عريضا للمرحلة السابقة.

ولكن الأوضاع اليوم تغيرت، وأعتقد أن المبادرة جاءت في وقتها الصحيح، جاءت لتشكل عنوانا للمرحلة المقبلة، فالمطلوب اليوم من القائمين عليها إخراجها من نطاقها التنظيري والصوري والاحتفالي، لتفعيلها على أرض الواقع بسلسلة من الحقائق الواقعية. وهذه نفس الملاحظة التي تلقيتها من أحد الأساتذة الأفاضل كتبها تعليقاً على مقالي السابق حيث أثار سؤالا مهما عن الممارسات الواقعية لتفعيل هذه المبادرة.

اعتقد أن الموضوع لا بد أن يصب في مسارين رئيسيين، الأول يتمثل في توفير قنوات اتصال رئيسية لنقل حاجات المواطنين إلى صانع القرار في الدولة بشكل منظم، وهذه القنوات موجودة ولكن لا بد من إعادة إصلاحها لتتناسب مع معطيات الوقت الحالي ويأتي المجلس الوطني الاتحادي والإعلام في الدولة ليمثل القناة الرئيسية، فالمرحلة الحالية مرحلة إصلاح وتمكين، فالمواطن عندما يشعر أن هناك ممثلين حقيقيين ينقلون همومه ومشكلاته إلى صانع القرار وأنه سيجد أذنا صاغية، سيكون انتماؤه وارتباطه بقضايا وطنه أكثر، والعكس صحيح، كذلك الإعلام لا بد من إعادة صياغة خطابه ليفعل من المضامين الوطنية ويعمل على إيجاد أرضية وطنية تعمل على تأصيل مفهوم الانتماء.

المسار الآخر يتمثل في إعادة تسليط الضوء على القضايا الوطنية الرئيسية التي حملها مجتمع الإمارات على عاتقه طوال السنوات الماضية، فمرحلة التشخيص لهذه المشاكل اعتقد انها قد ولت، والمرحلة الحالية مرحلة وضع حلول وعلاج لهذه المشكلات، فالانتظار ليس من صالح أحد أبداً، فالدول تستطيع أن تحل مشكلاتها وهي في حالة رخاء وسلم، أما في حالة الأزمات فلا تستطيع أبداً أن تسيطر على الأوضاع بعد فوات الأوان.

تأتي قضية المواطنة في اعتقادي لتحتل الدرجة الأولى في سلم أولويات خطة التلاحم الوطني، فالمواطنة هي اللبنة الأولى وهي أكثر تحد عن غيره من التحديات عرضة للتأثيرات الخارجية والمتغيرات الداخلية، وذلك لارتباطها المباشر بقضية الولاء والانتماء للوطن. وعلى الرغم من حداثة هذا المصطلح وتعدد مفاهيمه، وارتباطه بالتطورات التي لحقت بدول الخليج منذ تأسيسها في فترة حديثة.

حيث كانت مفاهيم الولاء سابقاً مرتبطة بالقبيلة والعشيرة، إلا أن المتفق عليه في تعريفها أنها عبارة عن مجموعة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحريات المدنية التي يكتسبها الفرد قانوناً بالمساواة مع غيره بصرف النظر عن الانتماء المناطقي والطائفي والقبلي والديني.

ورغم أن الدولة قطعت أشواطاً كبيرة في تأصيل هذا المفهوم منذ قيامها وبدعم مباشر من القيادة السياسية التي لم تفرق بين شخص وآخر وفق اعتبارات اجتماعية أو دينية إلا أن العرف الاجتماعي والقبلي والديني مازال يتحدى وينازع الدولة في تطبيق هذا المفهوم وتأصيله. إذا الموضوع بحاجة إلى مراجعة أخرى ولعل المناهج التعليمية تعتبر أحد المداخل المهمة خاصة بالنسبة للأجيال الصاعدة وهي الأجيال التي يعول عليها كثيراً في تأصيل مفهوم الدولة المدنية الحديثة خلال السنوات القادمة.

فالمناهج الوطنية على سبيل المثال في كافة المراحل الدراسية لا بد من إعادة مراجعتها مراجعة وطنية، وتستطيع اللجنة القائمة على مبادرة التلاحم الوطني أن تتعاون مع وزارة التربية والتعليم وذلك بتشكيل لجنة من الباحثين الإماراتيين في مجال التراث والتاريخ، تعيد النظر في مناهج التربية الوطنية بحيث تتضمن مواد تاريخية أكثر دقة عن مجتمع الإمارات.

فالمناهج الحالية لا تقدم للأسف إلا جرعات خفيفة لا تغني ولا تسمن من جوع. ما أردت أن أذهب إليه في تعزيز مفهوم المواطنة أن تكون التفاعلات آتية من أسفل وليس من أعلى، قادمة من التفاعلات الاجتماعية تلك التفاعلات التي تصنعها الأسرة وتلقنها لأفراد عائلتها، دور المدرسة والمناهج والإعلام، فلا بد أن يكون التغيير وفق هذه المستويات أولاً خاصة فيما يتعلق بتعميق مفهوم الولاء والانتماء للوطن وليس لأي شيء آخر سواه، عندها ستصبح المطالبة بالمشاركة السياسية والحقوق السياسية جاهزة وناضجة بما فيه الكفاية.

يجب على القائمين على مبادرة التلاحم الوطني أن يحولوا التنظير إلى واقع وأن يتحركوا بشكل عملي وسريع مستفيدين من الدعم السياسي الكبير المقدم لهم سواء من قبل رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أو من قبل وزارة شؤون الرئاسة التي ترعى المبادرة، فالمبادرة أكبر من أن تحاصر في أروقة معارض فهي عنوان حقيقي وواقعي لعصر أصبحت لغته الرئيسية التغيير.