الثورات الشعبية تشعل الأزمة العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

طوفان الثورات الشعبية الذي يجتاح منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية، والمرشح أن تمتد تداعياته لتشمل معظم مناطق العالم، بات يهدد الاقتصاد العالمي بشكل واضح، هذا الاقتصاد الذي يعاني منذ ثلاثة أعوام مضت من أزمة عالمية غير مسبوقة في خطورتها وتداعياتها التي غطت كل بقاع الأرض من الشرق إلى الغرب، ومازالت تنخر بشدة في اقتصادات كبريات الدول وتهدد العديد منها بالانهيار، ونذكر هنا أنه سبقت الثورات والمظاهرات الشعبية في البلدان العربية مد آخر من المظاهرات والاضطرابات اجتاح المدن الأوروبية بسبب سياسات التقشف التي تتبعها الحكومات الأوروبية لمواجهة الأزمة العالمية، كما نذكر أن العاصمة الفرنسية باريس سبقت القاهرة بأيام قليلة في المظاهرات المليونية في أكتوبر الماضي، ومازالت عدوى المظاهرات والثورات الشعبية مستمرة وتتوسع لتعبر إلى القارات الأخرى.

وتأتي الثورات الشعبية في البلدان العربية لتضرب الاقتصاد العالمي في الصميم، حيث يعتمد العالم على هذه المنطقة بالتحديد في أكثر من نصف موارده من مصادر الطاقة، وخاصة النفط، وجاءت أحداث الثورة المصرية وانفجار أنبوب الغاز المصري إلى إسرائيل لتثير التوتر والتقلبات في أسواق الغاز العالمية وترفع أسعار الغاز لأول مرة منذ سنوات طويلة مضت.

ثم جاءت ألأحداث في ليبيا لتقلب أسواق النفط العالمية رأسا على عقب وتقفز بأسعار النفط قفزات سريعة ومتباعدة بشكل مخيف جعل الخبراء يتوقعون أن تصل الأسعار في الأيام القادمة إلى ضعف السعر الحالي، أي تتجاوز المائتين دولار للبرميل الواحد، وهو الأمر الذي لم تشهده أسواق النفط في تاريخها، وهو الأمر أيضا الذي لا تستطيع تحمل تبعاته معظم دول العالم، وعلى رأسها الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد على النفط كمصدر أساسي ورئيسي للطاقة.

مع اندلاع الأحداث في ليبيا أظهرت حسابات أجراها خبراء دوليون بطلب أن إنتاج النفط الليبي انخفض بنحو ‬25٪ أو بمقدار ما بين ‬300 ألف و‬400 ألف برميل في اليوم نتيجة للاضطرابات الحالية في البلاد، ويذكر أن متوسط إنتاج النفط في ليبيا كان يبلغ ‬1,6 مليون برميل في اليوم، فيما جرى تصدير نحو ‬1,3 مليون برميل من النفط يوميا إلى الأسواق الخارجية، وفي المقام الأول في أوروبا.

وإذا كانت هذه الكمية يمكن تعويضها الآن بزيادة الإنتاج في دول « أوبك» فإن التوتر وتصاعد الأحداث المرشحة له ليبيا والمنطقة ينذر بالمزيد من الاضطرابات في أسواق النفط، خاصة وأن الزعيم الليبي القذافي لمح في خطاباته بتهديدات بحرق النفط.

ويرى العالمون بالقذافي وشخصيته أنه من الممكن أن يقدم على خطوة مثل هذه إذا شعر بضيق الحصار من حوله ودنو نهايته، أيا كان الأمر فإن الإنتاج الليبي من النفط قد انخفض بالفعل خلال الأحداث الماضية بنسبة تجاوزت ‬25 ٪، الأمر الذي قفز بالأسعار العالمية في أيام قليلة قفزات غير متوقعة، مما دفع المملكة العربية السعودية كأكبر منتج للنفط في العالم إلى زيادة إنتاجها من النفط بمقدار ‬700 ألف برميل يوميا ليصل إلى ‬9 ملايين برميلٍ يوميا.

وتأتي زيادة الطاقة الإنتاجية من قبل السعودية نتيجة ضغوط تعرضت لها لمواجهة الطلب العالمي المتزايد على النفط ولخفض الأسعار التي ارتفعت، بسبب نقص الإمدادات من ليبيا نتيجة التوترات السياسية، وقد دعت وكالة الطاقة الدولية منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى استخدام الطاقة الإنتاجية الفائضة في استخراج النفط عند الضرورة، وذلك على خلفية الاضطرابات في ليبيا والتي قد تتسبب بإحداث خلل في إمدادات الطاقة في العالم، وفق ما ورد في بيان صادر عن الوكالة.

هذه الزيادة التي قدمتها السعودية ربما تكفي لسد النقص الذي حدث حتى الآن لكنها بالقطع لا تكفي لما هو آت، كما أن الدول المنتجة للنفط لا تستطيع زيادة إنتاجها بلا حدود، بل هناك مستوى محدد لدى كل دولة على حدة تستطيع أن ترفع إنتاجها إليه ولا تستطيع تجاوزه لأسباب فنية بحتة تتعلق بالعملية الإنتاجية وعمليات التصدير، وبالتالي فإنه إذا تطورت الأزمة في ليبيا وانتقل المد الثوري لدول أخرى عربية منتجة للنفط فإن الأمر سيكون مرشحا لحدوث كارثة في أسواق الطاقة العالمية.

و من الخطأ أن يتصور البعض أن الدول المنتجة للنفط أمامها فرصة ذهبية لزيادة دخلها من وراء ارتفاع ألأسعار، الأمر ليس كذلك، والأزمة العالمية تضرب الاقتصادات العالمية ككل وليس قطاعات محددة فيها، والدولة المرشحة لزيادة دخلها من عائدات النفط ليست بمأمن من تداعيات الأزمة في مجالات أخرى في اقتصادها، ولقد حققت روسيا عائدات كبيرة من النفط والغاز، ولكن هذا لم يحمها من تداعيات الأزمة العالمية.

وقد صرح رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر صحفي عقده في بروكسل منذ أيام قليلة في ختام مباحثاته مع رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو أن ارتفاع سعر النفط على خلفية الأحداث في شمال أفريقيا ينعكس بشكل سلبي ليس فقط على النمو المحتمل للاقتصاد العالمي وإنما على نمو الاقتصاد الروسي أيضا، وأضاف أن هذه الأحداث تهدد النمو الاقتصادي في العالم مما لا يصب في مصلحة الاقتصاد الروسي.

المد الثوري الشعبي مستمر ويتصاعد، وتأثيراته على الاقتصادات العالمية كبيرة وتتصاعد أيضا، الأمر الذي قد يفاقم الأزمة العالمية ويمد في عمرها لسنوات أخرى قادمة.

Email