في كثير من الأحيان نجد أن الفجوة تتسع بين طرفيْن أو أكثر، وسبب الاتساع هو عدم وجود حوار مفتوح بين هذه الأطراف؛ فكل منها يتصرف وكأنه يعيش في جزيرة منعزلة بعيدة عن غيرها، أو كأنهم جميعا يعيشون في كواكب متفرقة يبتعد كل واحد منهم عن الآخر آلاف الأميال «النفسية».
يمكن أن نزعم أن الحوار ـ بوصفه فعلا حيويًا يمارسه الإنسان للتواصل مع من حوله، والتعبير عن نفسه، وعن عواطفه واحتياجاته، وللتقرب من الآخرين وكسر الحواجز بينه وبينهم، وكذلك لبناء نفسه والإسهام في نهضة المجتمع من حوله ـ يجب أن يكون متاحًا بين الأطراف المتشابهة والمختلفة، بين القريبين جدا الذين يظنون أنهم يفهمون بعضهم بنظرات العيون، أو بلمسات اليد، أو يزعمون أنهم يجيدون قراءة صمت الآخرين ـ وهذا كله جيد، لكنه غير كافٍ، وكذلك بين البعيدين جدا الذين يعتقدون يقينًا أنهم قد ضلّوا طريق الحوار مع بعضهم منذ زمن موغل في النسيان، أو أنهم لا يجدون الصيغة المناسبة لحوار مثمر مع الآخرين، أو أنهم لا يحتاجون إطلاقًا لفتح هذا الحوار لأنه لن يقدم لهم جديدًا، ولن يحقق لهم مكاسب مادية ملموسة، كما أن عدم تحققه لن يأخذ منهم شيئًا، ولن يتسبب في خسرانهم أي شيء يستحق أن يغيروا وجهة نظرهم من أجله. كلا الفريقين عليه أن يدرك أنه محتاج إلى الحوار، بالقدر الذي يظن أنه غير محتاج إليه، وستزداد حاجته إليه ـ التي لا يعيها، وربما يعيها ولا يعترف بها ـ كلما زاد في ظنه، أو تمادى في إنكاره.
لو أمعنا النظر في ما حولنا، سنجد أن كثيرًا من مشاكلنا الذاتية والاجتماعية سببها هذا الحوار المفقود، وربما السبب الأكثر عمقًا هو عدم وعينا بأهميته، وبالتالي عدم سعينا لتحقيقه، وهذا ما يؤدي إلى تأجيل فرصة حدوثه، مع أنه أمر متيسر، ولن أقول إنه سهل، بل على العكس تمامًا، إنه من أكثر الأفعال صعوبة، على الرغم مما يبدو عليه ظاهريًا من أنه مجرد تبادل «كلام».
الحوار المطلوب ليس مجرد «كلام»، بل هو تواصل مع الآخر/ الآخرين، على المستوى النفسي والاجتماعي والفكري والثقافي، وحين يفتح الإنسان فمه للكلام مع شخص آخر فإنه يفتح أبوابًا أخرى، وهذا هو الجزء الأهم في الحوار بين الناس.. الناس بجميع فئاتهم ومستوياتهم، فهو الذي يساعدنا على فهم أنفسنا من جهة، وفهم الآخرين حولنا من جهة ثانية، ومساعدتهم على فهمنا من جهة ثالثة، بعد ذلك يمكن أن نخرج من عباءتنا الذاتية، ونحاول الإحاطة بفهم أشمل وأعمق لكل ما حولنا.
ولو كان الحوار الشفوي موجودًا بالحد الأدنى المطلوب، لرأى كثيرون من الناس للحياة وجهًا مختلفًا، وحين أقول «الحوار» فإني أقصد الحوار الواعي بين أطراف تعرف أصوله وضوابطه، وليس الحوار المعتمد على طرف مركزي يصدر عنه الكلام، كالوالد في نموذج الأسرة التقليدي، وطرف أو أطراف أخرى ليس لها إلا الموافقة على ما تسمع، كالدور الذي تؤديه الزوجة والأبناء، وخصوصًا الإناث، في هذا النموذج الأسري.
ومشكلة الحوار ليست خاصة بالمستوى الأسري فقط، إذ يمكن أن نجد الشيء نفسه في علاقة كثير من المعلمين في المدارس بطلابهم، والأساتذة في الجامعات مع طلابهم أيضا، والرؤساء مع مرؤوسيهم في مواقع العمل المختلفة.. معظم هذه البيئات لا توفر الحد الأدنى المطلوب من الحوار بين أطرافها، وكأن هناك طرفًا واحدًا يرى أنه قادر على التفكير نيابة عن عقول جميع من حوله، وعلى هذا فهو قد حصر وظيفة الحوار في زاوية ضيقة، وأهمل مساحات أخرى شاسعة يمكن أن يوفرها له.
وإذا اعتبرنا التواصل الجسدي، من مثل المصافحة والربت على الكتف والمسح على الشعر وغيرها، شكلا من أشكال الحوار، فإننا يمكن أن نزعم بأن هذا الحوار أيضا غائب عنا، وأنه إن وُجد فإنه موجود في حدود ضيقة، وخصوصًا في مراحل عمرية معينة، ثم يصبح مجرد ذكرى، أو قد يوجد في مناسبات معينة، ويصبح مرتبطًا بها.
وفي ما عدا هذه المناسبات التي تمر سريعًا، يتوارى هذا الشكل من أشكال الحوار خلف أشياء كثيرة تلامس كل شيء حولنا، دون أن تلامسنا، أو تتعرف إلى احتياجاتنا، أو تسمح لنا حتى بأن نعرّفها بها.
لكن كما ذكرت، فإن هذا الشكل من أشكال الحوار غير كافٍ، ولابد للسان أن يتحرك ليترجم ما في الداخل، سواء في القلب أو الروح أو العقل.. والإشكالية الكبرى هي ألا يعمل اللسان، ولا يعمل غيره كذلك، وقد نشعر ذات صحوة أنه لا فرق بيننا وبين ألواح خشب تمشي على رجلين.