تسمرت أنظار العرب والعالم على ميدان التحرير بأرض الكنانة عبر الفضائيات يتابعون بزوغ ميلاد فجر جديد لم يحلم هذا الجيل من العرب ببزوغه في حياتهم. فجأة وإذا بالجيل الجديد، جيل الإنترنت والفيس بوك يثبت أنه ليس بساه ولاه على مقاهي الإنترنت وشاشاتها عن هموم مجتمعه، فإذا به في صلب الأمة وعصبها يعبر عن ضميرها قولا وفعلا وبجزالة لم تتمكن الأجيال التي سبقت مجاراته، وعرفانا بذلك ما كان من جميع فئات المجتمع المصري وجميع العرب إلا أن اصطفت معه تشد من أزره وتؤازره ويصبح فعله ثورة للجميع. وفجأة أخرى، وإذا بنا نحس بأن أطراف جسدنا على امتداد الوطن العربي تسري الدماء في أطراف شعيراته الدموية وكنا نحسب أنها قد ماتت فإذا هي ببعث جديد.

بميدان التحرير بعث الشعب المصري بعثا جديدا خلال ‬18 يوما دون وجود القادة الملهمين أو القادة الضرورة أو الحزب المخلص - كما تذكر بعض الأدبيات الحزبية المتهافتة المتهالكة - بل كان ذلك قدوة بالشباب الغيور المسؤول من كل مشرب ومذهب الذي ولد الإحساس بأن البلد بلد أفراد الشعب وهم مسؤولون عن أنفسهم وعنه وعن نظافته ونظامه، وأنهم ليسوا غرباء في الوطن الذي حول عزبة لرجال السلطة وأنهم ليسوا عالة تلك العزبة. فمن المستجدات المبهرة أنه على الرغم من انعدام الحراسات والشرطة لم يحدث من الجموع المعتصمة تحرش أو اعتداء على فرد أو كنيس أو كنيسة أو مسجد أو صدامات كما كان الحال سابقا بوجود الحراسات والشرطة والنظام.

كما أصبح سائقو السيارات أكثر التزاماً بإشارات المرور وإن خلت الشوارع بعد منتصف الليل، وكذلك تقلصت ظاهرة إلقاء أعقاب السجائر والمخلفات في الشوارع دون إرشادات وتوجيهات القائد الملهم أو الحزب الضرورة فتجلت رواسب حضارات الأمة في خلاصات معدنها المحمي في آتون المحنة للعالم، فهزمت تلك الجموع المغربة في وطنها السلطة، واستعادت الجموع وطنها مرة أخرى بسلاح تجمهرها واعتصامها. وتغطية قناة الجزيرة كان عونا مسطرا بالفخار وهي التي أعادت منذ ظهورها رسم خارطة الإعلام العربي وأعادت رسمها مرة أخرى، رغم إلغاء تصريح عمل مكتبها في مصر، فلقد تجند رجال الإعلام والأفراد المصريون الأحرار بمدها بما تحتاج من مواد سجل كثير منها بالهواتف النقالة محررة من قيود ضوابط ترخيص مكتبها لتغطية أحداث ميدان التحرير إضافة للإنترنت والفيس بوك.

إن ما حدث في ميدان التحرير حدث فاصل نوعي لما قبله ولما بعده فهو تعبير جماعي عميق المعاني والدلالات الحضارية وتلخيص نابع من الوعي واللاوعي ينضح طزاجة لتراكمات حضارات وادي النيل والمنطقة في شخصية ابن وادي النيل، ويذهب لأبعد مما خطر ببال جميع من سبقوا من القادة والمصلحين على اختلاف مشاربهم، ويعبر بحداثة عما يختلج الآن في ضمير الأمة انطلاقا من ثورة الياسمين بتونس الخضراء وتتويجا لها في أرض الكنانة بثورة الفل. وما كان لهاتين الثورتين أن يكون لهما هذا البُعد الذي نراه الآن إلا لوقوعهما كخلاصة لإرهاصات سياق تاريخي بعدما حدث ما حدث في منطقتنا في أفغانستان وباكستان ومن ثم إيران ولبنان وفلسطين أطفال الحجارة والعراق وتركيا والسودان وما أصاب منطقتنا بسبب أحداث برجي التجارة العالميين بنيويورك والأزمة المالية العالمية.

فهنيئا للبنان الذي دحر مواطنوه جيش إسرائيل الذي لا يقهر، من بيروت العاصمة وباقي أجزائه، ولأطفال الحجارة بفلسطين، ولتونس الخضراء، وهنيئا لأرض الرافدين الصابرة القابضة على الجمر، وهنيئا لأرض الكنانة ولنا جميعا بالنصر المؤزر. فمن بعد ثورة الياسمين بتونس وثورة الفل بمصر لم يعد شبابنا ينظر من المحيط إلى الخليج للمثل الإيراني مثلا يحتذى أو ينظر له بإعجاب، ولا يجب أن نستبعد أصداء ثورتي الياسمين والفل في باقي العالم لتصحيح ما حاق ببعض الشعوب من محن فاقمتها الأزمة المالية العالمية طاحنة شرائح كبيرة لحساب فئات قليلة غير مستحقة لا بالجهد ولا بالإبداع.

ثورتا الياسمين والفل بداية طريق طويل وعمل دؤوب لا بد من استمراره للحفاظ على المكتسبات بخلق الآليات الضامنة كي تسد الأبواب أمام أصحاب الصوت الواحد الذي «لا صوت سواه» أو أصحاب «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أو مدعي العصمة أو أصحاب الأبراج العاجية مزكي النفس من أي لون أو جنس. والثورتان دعوتان لمراجعة نفوسنا وإصلاح أمورنا بما يتفق مع حاجات مجتمعاتنا ومعطيات العصر كي لا تتعطل مصالح المواطن والوطن التي هي جزء من مصلحة العالم وتحتقن النفوس لمدى لا يحل إلا بنهج مشابه بشكل ما لثورتي الياسمين أو الفل اضطراراً.

فهذا عصر التلفاز الفضائي وهواتف الفيديو المدمجة باليوتيوب والفيس بوك والديمقراطية، والتقصير الفاضح فضيحة عالمية لا يمكن إخفاؤها عن هذه الوسائل ولا ينفع معها إغلاق المكاتب وإلغاء التصاريح كما رأينا. والقيادات السياسية الحكيمة هي التي تبادر بفتح أبواب ونوافذ التطور لتجديد هواء الأوطان وحجره المختلفة كلما أسن، منعا للثورات والصدامات التي تدفع الأوطان أثمانها بالدولار، مضافا لها الفوائد النقدية المركبة المترتبة عليها للحاق بركب التطور المجتمعي في جميع جوانبه لحاقا بالعصر الحديث.