تصعيد الصراع في سوق الطاقة النووية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك صراع خفي يدور خلف الكواليس في أسواق الطاقة النووية العالمية، ونحن نعتقد أن الجانب الأكثر أهمية في النزاعات الدولية حول قضية الطاقة النووية لا يقتصر على ضمان استخدام هذه الطاقة في الأغراض السلمية، وإنما بسبب ما توفره الطاقة النووية من قدرات وإمكانات هائلة لاقتصاديات البلدان التي تتحول للاعتماد عليها.

التصعيد الإعلامي الذي صاحب الإعلان عن الأضرار التي ألحقها فيروس «ستوكسنت» بكمبيوترات المحطة النووية الإيرانية هو في حد ذاته شكل من أشكال المنافسة الخفية في أسواق الطاقة النووية، فقد كتبت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية نقلا عن مصادر أمنية غربية إن خبراء روس يعملون في محطة بوشهر النووية الإيرانية لإنتاج الكهرباء أخبروا السلطة العليا الروسية «الكرملين» بأنهم يخشون أن تحصل في إيران حادثة شبيهة بتلك التي حدثت لمحطة تشيرنوبيل النووية السوفيتية ما لم يتم تقدير الأضرار التي ألحقها فيروس «ستوكسنت» بكمبيوترات المحطة النووية الإيرانية، ووفقا للصحيفة البريطانية فإنهم ناشدوا الكرملين التدخل لتأجيل إدخال محطة بوشهر إلى حيز العمل على الأقل إلى نهاية هذا العام لكي يتناولوا الأضرار بالتحليل، حيث إنه من المفروض أن تبدأ محطة بوشهر بإنتاج الكهرباء في نهاية الشهر الجاري (فبراير)، ويرجح البعض أن يكون الهدف من وراء ما نشرته «ديلي تلغراف» هو محاولة لتأخير موعد بدء تشغيل المحطة النووية الإيرانية، وأيضا تشويه سمعة التكنولوجيا النووية الروسية التي تشكل منافسا قويا للتكنولوجيا الغربية في الأسواق العالمية، وقد أعلنت شركة «اتوم ستروي اكسبورت» الروسية التي أكملت بناء محطة بوشهر، والمنظمة الإيرانية للطاقة النووية أن فيروس «ستوكسنت» لم يتمكن من دخول النظام المؤتمت لإدارة العمليات التكنولوجية بمحطة بوشهر، وفضلا عن ذلك فإنه لا مكان للمقارنة بين معايير الأمان في محطة بوشهر ومعايير الأمان في محطة تشيرنوبيل كما أشار إلى ذلك اندريه شركاسينكو، المدير العام لشركة «اتومبرومريسورسي» الحكومية الروسية.

حيث قال « إن مفاعل بوشهر تجسدت فيه أحدث الإنجازات في مجال تأمين سلامة المفاعلات النووية وإن ما ذكرته الصحيفة البريطانية مختلق».

ولم ترى الجهات الروسية أي مبررا لتأجيل وضع مفاعل بوشهر على الإنتاج إلى نهاية عام ‬2011.

هذه الواقعة بالتحديد تعكس مدى المنافسة الخفية في أسواق الطاقة النووية العالمية، هذه السوق التي يرشحها الخبراء لأن تحل محل سوق النفط العالمي قبل منتصف هذا القرن الجاري، فلقد أصبح الاقتصاد العالمي يعتمد كثيراً على صناعة الطاقة الذرية، ويتنامى اعتقاد لدى العديد من الباحثين أن الطاقة النووية هي الوحيدة القادرة على تلبية الاحتياجات المتنامية بشكل سريع للبشرية، بل إن حياة الإنسان ورفاهيته باتت مرتبطة باستهلاك كميات هائلة من الطاقة، ما يفرض على الكثير من البلدان الانتقال لاستخدام الطاقة الذرية باعتبارها الأرخص والأكثر إمدادا للطاقة.

وتكشف الإحصائيات العالمية عن أن استهلاك الطاقة يتنامى بشكل كبير، بل ويزيد عن نمو تعداد سكان الأرض ليتضاعف مع حلول عام ‬2050. وإذا كان الاستهلاك المكثف للمواد الهيدروكربونية لا يؤدي فقط إلى الاستنزاف السريع للثروات الطبيعية وإنما أيضا إلى عواقب بيئية كارثية، باعتبار أن تزايد استهلاك المواد الهيدروكربونية سوف يؤدي لزيادة كميات غاز(ثاني أكسيد الكربون) الصادر عنها، ليصل حجمه في الجو خلال عام ‬2050 إلى حوالي ‬11 مليار طن في السنة، مما سيكون السبب الأساسي في اشتداد ظاهرة الاحتباس الحراري. ولا تتوقف أهمية الطاقة النووية عند هذا الحد، وإنما تعتبر الأداة الرئيسية لإنقاذ العالم من أزمة تناقص مياه الشرب التي بدأت تتفاقم في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وتتحول لسبب أساسي في النزاعات الإقليمية، إذ من غير الممكن تجديد احتياطي مياه الشرب إلا بواسطة محطات ذرية عائمة لتحلية المياه.

وتعتبر روسيا من بين أكبر خمس دول منتجة للطاقة النووية، إذ يستخدم أكثر من ‬15 بالمائة من المفاعلات الذرية في العالم الوقود النووي الروسي. ومن المتوقع أن تزداد هذه الأرقام، مع إقبال العديد من الحكومات على تشييد مفاعلاتها الذرية، هربا من ارتفاع أسعار النفط والغاز.

هذا الوضع لابد وأن يؤدى لاحتدام الصراع الدولي على محورين أساسيين:

‬1 ــ محاولة الإبقاء على النفط والغاز كمصادر أساسية للطاقة، ليس فقط لإنهاك اقتصاديات الدول النامية، وإنما للتحكم في قدراتها الصناعية. إضافة للاستفادة بهما في زيادة أرباح وعائدات الاحتكارات المتعددة الجنسية.

‬2 ــ نهوض قطاع الطاقة النووية في مجال الأغراض السلمية سيفتح آفاق واسعة أمام اقتصاديات وصناعات الدول النامية، بل وقد يمكنها من الاقتراب من اقتصاديات الدول الغنية. ما سيخفف من هيمنة الاحتكارات متعددة الجنسية على اقتصاديات هذه الدول.

ومنذ عدة أعوام حددت موسكو استراتيجية لغزو أسواق الطاقة الذرية العالمية، ويمكن اعتبار ذلك من أهم الدوافع التي تجعل الإدارة الأميركية تخوض حربا ضروسا لإزاحة روسيا عبر تفجير البرنامج النووي الإيراني، باعتبار أنه من أهم مرتكزات توسع النفوذ الروسي في أسواق الطاقة الذرية.

Email