كثيرًا ما نجد أنفسنا في مسار ربما لم نفكر يوما أن نسلكه، بل ربما كنا نستبعد تماما أن يكون هذا المسار واقعًا حاضرًا نخطو عليه خطواتنا نحو المستقبل، لكن هذا المستبعَد يكون أحيانًا أقرب إلينا من أنفاسنا.. دون أن نشعر.

والحياة ــ بتجريد شديد ــ عبارة عن خطوط ومسارات، لا يعلم أي واحد منا على أيها يسير، ونحو أي منها يتجه، وما المسار الذي سيكون عليه في قادم أيامه، لقصور إدراكنا البشري من جهة، ولتعقيد مسارات الحياة من جهة أخرى. ويبدو أن تشابك خطوط الحياة وتداخل مساراتها، هو الذي يجعلها في نظرنا أكثر تعقيدًا مما هي عليه في الحقيقة، لأننا لا نرى هذا التداخل بالعين المجردة، وفي الوقت نفسه نخضع له، ونشعر بتأثيره سلبًا وإيجابًا على سيرورة أيامنا، وتحديد وجهاتنا. المهم أن نحاول مسايرة هذه التشابكات والتعقيدات، دون تذمر أو استياء، كي نتمكن من فهم حياتنا أولا، والاستمتاع بها ثانيا.

يمكن أن نُشَبِّه الحياة بخطوطها الكثيرة والمتداخلة، بدهليز ضخم جدا، ممراته بالغة التعقيد، يدخله الإنسان صغيرًا، ويقضي وقته وعمره وهو يسير فيه، لكن المهم هو إلا يفقد متعته أثناء ذلك. وحين ينتهي عمره، لا يكون هو شخصيًا ولا أي شخص آخر، متأكدًا من أنه كان يمشي فيه في المسار «الصحيح».. وصفة «الصحيح» تبدو منسجمة مع الكلام على الدهليز، لكنها لا تبدو كذلك عندما يكون الكلام على الحياة، وأفضّل استخدام صفة «مناسب» معها أكثر؛ فالصحيح قد يكون مناسبًا وقد لا يكون، أما المناسب فلن يكون إلا صحيحًا.

الهدف في الدهليز واضح ومحدد، وهو الخروج منه والوصول إلى النهاية، لكن الأمر مختلف مع الحياة؛ فمن المستحيل أن يكون الهدف هو الوصول إلى النهاية، التي لن تعني سوى الموت. إلا أن هناك أمرا مشتركا بين ممرات الدهليز ومسارات الحياة، وهو أن الشخص السائر في ممرات دهليز، لا يستطيع أن يحدد ما إذا كان يسير في الطريق «الصحيح» أو لا، لأنه يعيش الحالة بنفسه، أي أنه متورط فيها، وجزء لا يتجزأ منها، أما إذا كان هناك متفرج خارجي عليه، فيمكنه أن يرى اتجاهاته بوضوح، ويقارنها بنقطة الوصول، ويعرف إن كان يسير في الاتجاه «الصحيح» أو العكس.

والأمر كذلك بالنسبة للحياة؛ فليس بمقدور أي واحد منّا أن يعرف إن كانت اختياراته مناسبة أو لا، مهما فكّر وقدّر، إذ لا بد أن تكون هناك نسبة شك موجودة دائما، وهذه النسبة إن كانت في الحدود المعقولة ستعطي للحياة لذة ما، وإن زادت عليها ستحيل الحياة جحيمًا لا يُطاق. أما المتفرج الخارجي الذي قد يكون موجودًا في الدهليز، كما مارس معظمنا هذا الدور حين كان يُعرض برنامج «الحصن» وبالتحديد في فقرة «الدهليز»، فهو غير ممكن الوجود في الحياة، وهذا ما يجعل الأمر بالغ الصعوبة، ولا يمكن التقليل من درجتها إلا باستخارة واستشارة.

وإذا كان هدف أي شخص يدخل دهليزًا، أو يجد نفسه فيه، هو الخروج منه والوصول إلى نقطة النهاية، فإن أي شخص في الحياة، له عوضًا عن الهدف الواحد أهدافٌ عدة، تكاد تلتقي جميعها في هدف رئيس، وهو زيادة التورط في الحياة، والاستمرار في التنقل بين مساراتها، على الرغم مما قد نعانيه فيها من مصاعب ومشاقّ، إلا أن المحرك أقوى منا، وهو الرغبة الفطرية في البقاء وقتًا أكثر وعمرًا أطول. حتى عندما تتشابك الخطوط وتختلط المسارات وتبدو الحياة معقدة جدا في نظرنا، ويُصاب الواحد منا بحالة من التخبط والعشوائية، فإنه يواصل سعيه نحو التورط في وجوده في الحياة، على أمل الوصول، ولكن ليس إلى النهاية، إنما إلى هدف مرحلي يحققه ليتجه بعده إلى هدف آخر.. والمهم أيضاً هو ألا يواصل تقدمه بتذمر أو استياء.

وقد تتداخل الأهداف وتتزامن، ويصبح من الصعب تحديد الأولويات فيها.. حينها نشعر أن حياتنا أصبحت شبيهة بكتاب تناثرت صفحاته، وفقدت الغراء الذي كان يجمعها بترتيب ونظام معًا، فنحاول جمعها على قدر ما نستطيع، ساعين لإعادتها كما كانت بالترتيب نفسه وبحسب الأولويات التي نقدرها اجتهادًا، لكننا لسنا على يقين من صحة اجتهادنا.

وسواء كانت حياتنا دهليزًا معقد الممرات، أو كتابًا متناثر الصفحات، فالمهم هو أن ندرك أنها تجربة نعيشها لمرة واحدة، وإن لم نوَفَّق لاختيار المسار أو المسارات المناسبة، فإننا نخسر الفرصة الوحيدة التي مُنحنا إياها، وسنخرج منها دون أن نشعر أننا مررنا بها. و إذا سمحنا لأنفسنا بالانسياق وراء مشاعر التذمر أو الاستياء أو الانزعاج، فإننا نعلن نهاية حياتنا.. قبل أن تحدث فعليا.