طريق العلم واحد، لكن هناك من يصل، وهناك من لا يصل، وكأن العلم أصبح أحجية أو لغزًا معضلاً لا نجد له حلا، مع أنه لا يحتاج إلى جهود خارقة أو إمكانيات استثنائية؛ فالعلم هو الذي يوجد الإمكانيات، وهو الذي يرشدنا إلى كيفية استغلال الطاقات الكامنة فينا.. هو يجعل الصعب سهلاً، والبعيد قريبًا، ويختصر المسافات حتى تبدو كأنها غير موجودة، بمفعول يشبه مفعول السحر.

لم يكن العلم ولن يكون أبدًا حكرًا على شعب دون آخر، أو على فئة من الناس دون غيرها، ولا على منطقة جغرافية تستأثر به على حساب مناطق أخرى، لكننا نغالط أنفسنا أحيانًا ونفضل الاستسلام لهذه المغالطة، فنتعامل مع الموضوع وكأنه أمر مسلم به، فهناك شعوب يبدو عمرها أشبه بيوم موصول ليله بنهاره، في الانتقال من علم إلى عمل والعكس. ربما تكون حالة من حالات عشق العلم الذي يقود إلى العمل، أو عشق العمل الذي يأتي بعد طول مجاهدة ومعاندة من علمٍ.. يُعرَف عنه أنه لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيتَه كلك!

تثيرني أحيانًا أفكار بعض الأولاد أو البنات، ممن لا يزالون طلبة في أجمل المراحل الدراسية، تلك المراحل التي عشنا فيها متعتنا في التعلّم إلى أقصى حد كان ممكنًا في أيامنا، ولا نزال نذكرها بكثير من الحنين، ونتمنى دائما لو تعود بنا الأيام إلى الوراء لنعيشها مرة أخرى. بعض طلبتنا لا يحملون أي مشاعر إيجابية تجاه مدرستهم، أو المدرسين، أو حتى مفهوم الدراسة والعلم. أفكارهم في معظمها سلبية توحي بعمق الثقل الذي يشعرون به، بسبب هذا «الهمّ» اليومي الذي لا يبدو الخلاص منه وشيكًا، في رأيهم طبعا!

إن كثيرًا من الطلبة الآن لديهم اهتمامات متعددة بعيدة جدا عن حدود العلم والتحصيل، والطبيعي أن تكون مثل تلك الاهتمامات في مراتب متأخرة في أولوياتهم، لكنها مغرية جدا، لذلك لا يستطيعون إلا أن ينشغلوا بها ليلا ونهارًا، وهذا يأتي على حساب دراستهم وتحصيلهم، أي على حساب الناتج الذي سنحصل عليه في آخر العام. وبتراكم مثل هذا المستوى الرديء من «الناتج» التحصيلي طبعًا، سنجد أننا انتظرنا عدة سنوات كي يكبر هذا الطفل/ الطالب ويحصل على الثانوية العامة، لكن دون فائدة حقيقية، لأنه أقل وأضعف من أن يكون صالحًا لأي شيء يناسب طموحاتنا الكبيرة، وآمالنا التي نعلقها على شبابنا وشاباتنا.

لقد أصبح همّ كثير من طلبتنا هو الحصول على آخر لعبة إلكترونية موجودة في الأسواق، وربما قبل أن توجد في الأسواق المحلية، بما أن الإنترنت أصبحت سوقًا أقرب منها، وببطاقة ائتمان متوفرة عند الطلب دائما، يصبح أي شيء ممكنًا ومتاحًا. ومن لا يجد نفسه في مثل هذه الألعاب، فعنده بدائل أخرى، مثل التجول في مراكز التسوق، لدرجة أن بعضهم ينتقل من مركز لآخر في اليوم نفسه بحثًا عن لا شيء، لكنهم يفعلون ذلك، ويقولون إنهم يريدون أن يقتلوا الوقت، وهم لا يعلمون ـ ولا أهلهم كذلك يعلمون ـ أنهم يقتلون أنفسهم؛ فالوقت هو العمر.. هو «نحن»، سواء وعينا ذلك أو لم نعِ!

لا أعرف كيف ضاع الحافز وذابت الرغبات الحقيقية في التعلم، والحصول على أعلى الدرجات بعد دراسة وجد واجتهاد، وليس بمجرد تقديم واجبات وتقارير منسوخة نسخًا عن الإنترنت، أو تقديم بعض الهدايا لمن يقبلها من معلمين ومعلمات يعرفون كيف يقدرونها، أو بشراء بعض احتياجات الصف، والقصد الحقيقي هو شراء الدرجات بطريقة غير مباشرة، أو بتقديم ملفات أنشطة صُرِف من الوقت والمال على العناية بشكلها الخارجي، أكثر مما صُرِف من الجهد والتفكير على العناية بمضمونها.

إن مثل هذه الآلية في التعامل مع المواد المدرسية، وهي الوسيلة الأساسية لتلقي العلوم والمعارف الأولية في أهم مراحل التحصيل في حياة أي إنسان، لا بد أن تنعكس سلبًا على مستوى الطلبة الذين نتوقع دائما منهم الكثير، لكننا لا نساعدهم على أن يأتوا بهذا الكثير، ولا نأخذ بأيديهم نحو الطريق الصحيح، دون وعظ أو نصح خالٍ من التطبيق الحيّ، مما يجعلهما أشبه بعبارات جوفاء تدخل في أذن وتخرج من الأذن الأخرى.

ليس من السهل أن نطلب منهم أن يعزلوا أنفسهم عن كل المغريات المحيطة بهم، لكن يمكننا أن نساعدهم في تنظيم أوقاتهم من جهة، واهتماماتهم من جهة، وأن نزرع في نفوسهم حقيقة مهمة، وهي أن المستقبل هو ما يبنونه بأيديهم، لا ما يشترونه بأموالهم.

جامعة الإمارات