تشيلي ونمط إدارة الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بلغت رحلتي القصيرة إلى أميركا الجنوبية ذروتها، وظلت رأسي تدور عكس عقارب الساعة، بالطبع. والشيء الذي قلب رأسي ليس الفاصل بين الشمال والجنوب، ولكنه الغموض الذي طرأ على الخط السياسي المألوف الذي يتم من خلاله الفصل بين اليسار واليمين. مراراً وتكراراً، صدمت من الطرق التي تجاوزت بها البرازيل وتشيلي، وهما الدولتان اللتان زرتهما في هذه الرحلة، فيما يتعلق بالقضايا الأساسية، التقسيم المبتذل بين اليسار واليمين، الذي يبدو ان الولايات المتحدة قد سقطت في شركه.

ولا يعني هذا بطبيعة الحال، القول إن الطيف السياسي التقليدي توقف بشكل سحري عن الوجود هنا، ولكن كلتا الدولتين ضيقتا نطاق القضايا التي ستتم مناقشتها في الإطار الضيق لليسار/اليمين، وقامتا بتوسيع نطاق القضايا التي أصبحت جزءاً من الأجندة القومية، بعيدا عن لعبة الفوز بأساليب مريبة التي تمارسها الأحزاب. ويعتبر هذا هو النقيض الدقيق لما يجري في الولايات المتحدة.

كان أول توقف لي في سانتياغو في تشيلي، حيث أجريت مقابلة مع الرئيس التشيلي «سيباستيان بينيرا». ويعد «بينيرا» الأول في عدة أوجه أوضحها أنه أول رئيس يميني ينتخبه الشعب التشيلي على مدار عقدين منذ الرئيس السابق «بينوشيه». فهو ملياردير، وثالث أغنى رجل في تشيلي، وأستاذ جامعي سابق حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، حيث كان عنوان رسالته: اقتصاديات التعليم في الدول النامية، ويستجم، بجانب الكثير من الأشياء الأخرى، بالهبوط بالمظلات من الطائرة وقيادة طائرات الهليكوبتر.

خلال المقابلة التي أجريت في الغرفة الزرقاء المجاورة لمكتبه، قال لي «بينيرا«: «بنهاية العقد الحالي، نريد أن تكون تشيلي أول دولة في أميركا الجنوبية تخلصت من الفقر، وسد فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء، وأن يتم تصنيفنا كاقتصاد متقدم، وليس نامياً».

من أجل تحقيق تلك النتائج، يعمل «بينيرا» على رصد المزيد من الموارد لتطوير نظام التعليم في تشيلي. وقال لي: «ليس هناك أي شيء أكثر أهمية. سوف نكسب المعركة ضد الفقر داخل فصول الدراسة».

تولى «بينيرا» مهام منصبه في أعقاب كارثة. فقد جاءت بداية رئاسته خلال أقل من أسبوعين بعد الزلزال المدمر في فبراير الماضي، وإعصار تسونامي الذي قتل أكثر من ‬500 شخص في تشيلي، ودمر ‬4 آلاف مدرسة وخلّف مليوني شخص بلا مأوى. حاول «بينيرا» أن يصف لي صورة الدمار. فقال: «الدمار الاقتصادي الذي حل بتشيلي يعادل ‬18٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. في المقابل كانت تكلفة إعصار كاترينا أقل من ‬1٪ من النتاج المحلي الإجمالي لأميركا».

وبعد مرور ‬7 شهور، حوصر ‬33 من عمّال المناجم في منجم سان خوسيه، فيما اعتبر منعطفاً مصيرياً كان بمثابة اختبار لقيادته، وأصبح لحظة فارقة لبلاده ورئاسته.

في البداية نصحه مستشاروه بالبقاء بعيداً عن الكارثة، خشية من أن يتم ربطه على نحو أكثر قرباً بما كان يعتقد بأنه ستنجم عنه نتيجة مأساوية. ولكن «بينيرا» تجاهل نصيحتهم، وأنصت بدلاً من ذلك إلى ما يصفه، بلغة غير مألوفة بالنسبة لرئيس دولة، بـ«صوتي الداخلي». وهاجم الأزمة بحيويته المميزة. وعندما عرض عليه الخبراء ثلاث استراتيجيات مختلفة لإنقاذ عمال المناجم المحاصرين، أمرهم بتنفيذها جميعها في الوقت نفسه. وقال لي:«هذا ما كنت سوف أفعله لو أولادي كانوا في المنجم».

جهود الإنقاذ الناجحة أعادت الترويج لاسمي تشيلي و«بينيرا». عندما تحدثت مع أحد العمال الذين تم إنقاذهم، وهو «يوني باريوس»، قال عن الرئيس: «أنا أم أعط صوتي لبينيرا، ولكنه لو خاص الانتخابات مرة أخرى، فسوف أصوّت له بكل تأكيد. لولاه، لما كنت على قيد الحياة».

تتسم نظرة «بينيرا» المستقبلية بأنها أكثر ميلاً إلى المدى البعيد، ومتفائلة على نحو ناجح. خلال حديثنا، كان يستخدم بشكل متكرر عبارة «السماء هي حدودنا، وذلك في معرض حديثه بشأن مستقبل تشيلي. إنها دعوة مختلفة تماماً عن قبول إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بمبدأ «السياسة بوصفها فن الممكن».

عندما سألت «بينيرا» عن الرئيس أوباما، توقف لدقيقة، ثم قال لي: «الحياة قاسية، وعليكِ أن تكوني أكثر قسوة من الحياة كي تستطيعي تغيير العالم. وتوجهت من «بالاسيو دي لا مونيدا» إلى «بيلافيستا»، وهو الحي الذي كان يعيش فيه الكاتب التشيلي «بابلو نيرودا». فقبل ‬30 عاماً، قرأت مقالة لـ «نيرودا» بعنوان «الطفولة والشعر» التي تعتبر تلخيصاً مفعماً بالعاطفة بوصفه مبدأ استرشادي لكل من الحياة وللسياسة.

كتب نيرودا يقول: » الشعور بحميمية الأخوة يعد شيئاً رائعاً في الحياة. والشعور بحب الناس الذين نحبهم هو الشعلة التي تغذي حياتنا. ولكن الشعور بعطف من لا نعرفهم، المجهولين بالنسبة لنا، الذين يراعون نومنا ووحدتنا، والأخطار وحالات الضعف التي نتعرض لها، يعتبر شيئاً أعظم وأكثر جمالاً، لأنه يوسع حدود وجودنا، ويوحّد جميع الكائنات الحية». ويعتبر هذا التوسيع لحدود وجودنا هو ما يحول فن الحكم إلى فن إدارة الذات. وكما بيّن «بينيرا» حتى الآن، فإن الأمر يتجاوز تماماً مسألة اليسار واليمين.

 

رئيسة تحرير صحيفة «هافنغتون بوست» الأميركية

Email