آلان باديو هو فيلسوف يساري، له حضوره وسط المشهد الثقافي في فرنسا وخارجها. وهو لم يقتصر في التزامه السياسي على النضال بالتنظير الفلسفي والانخراط في المعارك الفكرية والسجالات الأيديولوجية، وإنما أسس، قبل عقود، منظمة سياسية ثورية وصفها البعض بأنها إرهابية.

وباديو، لم يتخلَّ عن يساريته، كما فعل الكثيرون. فالانهيارات والمتغيرات، كما تمثلت في سقوط المعسكر الاشتراكي وتحول الصين نحو اقتصاد السوق، لم تزعزع قناعاته، بل زادته تشبثاً بعقيدته الماركسية بنسختها الماوية، بوصفها خشبة الخلاص والسبيل إلى تحقيق الفردوس الاشتراكي الموعود. ولهذا لا يترك باديو مناسبة دون شنّ الهجوم على الليبرالية، بوجهيها الاقتصادي والسياسي؛ الرأسمالي والديمقراطي. وهو إلى ذلك، لا يعفي من نقده العنيف اليسار التقليدي، بوجهيه الاشتراكي والشيوعي، إذ ينعت أهله بـ«الخساسة» المتأصلة في تكوينهم.

ومجمل رأيه، كما تعرضه الكاتبة إفلين بياييه، في جريدة لوموند ديبلوماتيك (عدد يناير ‬2011)، أنه لا سبيل للوصول إلى المساواة الحقّة، حيث كل واحد يعامل الآخر بوصفه كائناً مساوياً له تمام المساواة، إلا بتجاوز المرء لطبيعته الحيوانية، وخروجه من كهف أناه الذي يولَّد الجشع ويصنع التفاوت.

ولكن، كيف يخرج المرء من قوقعة أناه، مصدر الداء، لكي يلتقي نظراءه في الإنسانية ويبني معهم مجتمع المساواة التامة؟

يعود باديو إلى نظريته في الحدث، كما يشرح ذلك في كتابه «الكينونة والحدث» الذي هو من أهم أعماله الفلسفية. والحدث هو واقعة استثنائية، خارقة، علمية، أو مجتمعية، أو عاطفية، تنفتح معها إمكانيات للنظر والعمل كانت «مستبعدة من التفكير»، أي لم تكن مرئية أو محتملة أو محسوبة.. إنه أشبه بصدمة تتيح لمن يتلقى أثرها، أن ينسلخ عن حيوانيته بقدر ما تنكشف له حقيقة المساواة الأصلية بين البشر. بهذا المعنى يحيل الحدث إلى معاني الكشف والتعالي.

وقد أحسنت إفلين بياييه في نقدها لباديو، بإظهار تهافت آرائه. لقد بينت أولاً، أنه يتفق مع أهل اليمين في تعريفه للإنسان من خلال «طبيعته الحيوانية»، لأن هذا التعريف هو من ثوابتهم التي يعتمدون عليها لتبرير مذهبهم الرأسمالي ومعتقدهم الليبرالي. وبيّنت من جهة ثانية، أن باديو لم ينجح في تقديم أفكار حسية ملموسة، تتجسّد في برنامج أو خطة عملية تتيح ترجمة ما سماه «معانقة الحقيقة» الكلية الجامعة، على أرض الواقع السياسي والمجتمعي. لقد بقي يدور في الفلك المثالي الأفلاطوني، بل هو يتعدى مثالية أفلاطون، لأن هذا الأخير رأى أن المدينة الفاضلة العادلة، يصنعها الفلاسفة الذين يقودون بقية الطبقات. أما المثال الثوري فلن يتحقق، في رأي باديو، ما لم يصبح جميع الناس فلاسفة، قادرين على التجرد من طبائعهم الحيوانية، ولكنه أدرك أن هذا الهدف صعب المنال. ولذا يقول؛ لا بأس أن ننتظر ألفاً أو ألفين من السنين، فذلك أفضل من أن ننخرط في اللعبة الديمقراطية، لكي نعيد إنتاج النظام الرأسمالي!

هكذا نحن إزاء مشروع ثوري مثالي، بل غيبي، الأمر الذي جعل ندّ باديو، الفيلسوف الماركسي الآخر سلافوج جيجك، يقول إن نموذج باديو هو من قبيل «الكشف الديني». ولذا تخلص إفلين بياييه، معتمدة على رأي جيجك، إلى أن باديو حاول نقض الأطروحة الليبرالية، ولكنه لم يفعل سوى «إنقاذها»، مقوضاً بذلك مشروعه اليساري من أساسه.

وفي رأيي، أن باديو لم يخرج على ماركسيته، ذلك أن الماركسيين رغم تأكيدهم على أنهم أصحاب فكر مادي، جدلي، تاريخي، قد فكروا في حلول طوباوية تتعالى على التاريخ، بل هي أكثر طوباوية من المشاريع الدينية. لأن الأنبياء وعدوا بتحقيق الفردوس في العالم الآخر، أما الماركسيون فقد حلموا بتحقيق الفردوس الاشتراكي على هذه الأرض، وهي مهمة مستحيلة ترجمت مزيداً من الاستبداد والتفاوت والظلم.. وهذا هو مآل كل مشروع طوباوي؛ إما أن يؤدي إلى نفي الواقع المراد تغييره لكي يزداد سوءاً، وإما أن يُقاوَم بالعنف والإرهاب لكي يبث الرعب ويزرع الخراب، وإما أن ينعزل صاحبه في انتظار حصول المعجزة كمن يتوقع ظهور المهدي المُنتظَر، أو بالنور الذي يقذفه الله في الصدر على طريقة الغزالي! ثمة إمكانية رابعة لا يجدُر إغفالها، هي ممارسة الزيف، كما نجد مثاله لدى سلافوج جيجك، الذي لا يتوقف عن نقد الليبرالية، فيما هو منغمس كل الانغماس في العالم الليبرالي الجديد، يستفيد من ثوراته ويستثمر إمكاناته.

لا أُريد أن أظلم باديو بالنظر إليه نظرة وحيدة الجانب، فللرجل أعمال فلسفية لا تخلو من الجدّة والأصالة، كما يتمثّل ذلك في كتابه «الكينونة والحدث»، وفيه يبلور مفهوماً جديداً للحدث على نحو مبتكر. ومفاد رأيه أن الحدث هو ما يولّد الأثر ويخلق الحقائق، وعلى نحوٍ قد يغيّر علاقة المرء بوجوده، بأبعادها الأربعة؛ المعرفية، والسياسية، والعشقية، والفنية.

هذا ما يسميه باديو «إجراءات الحقيقة» التي شكّلت، في رأيه، الشروط الأربعة لولادة الفلسفة لدى اليونان القدماء: الشرط العلمي، وتمثله الرياضيات بنوع خاص، بوصفها صورة الحقيقة وأُنموذج المعرفة؛ الشرط السياسي، وقد تجلى في اختراع الديمقراطية والتعامل مع المدينة بوصفها سلطة حرة مفتوحة؛ الشرط العشقي ويتجلى في اللقاء المفاجئ والمدهش بين الجنسين أو بين الاثنين؛ الشرط الفني ويتمثل في الإبداعات الأدبية والتشكيلية...

ولذا، فالتفكير هو قراءة في الحدث، تتيح للواحد أن يُنشئ علاقة مختلفة مع الحقيقة، بقدر ما يمارس وجوده بطريقة جديدة وغير مألوفة. وهكذا مع الحدث الخارق تنبجس إمكانات جديدة للوجود والحياة، للنظر والعمل، تُحدث انقطاعاً في مجرى الأشياء أو انعطافاً في مسار الأفعال، أو تحولاً في مصائر الذوات والهويات.

أخلص من ذلك إلى أن باديو قد أحسن صنعاً في بلورة مفهوم جديد للحدث، عبر اختراعه لمفهوم «إجراءات الحقيقة». ولكنه على صعيد السياسة، لم يكن صاحب دراية أو معرفة عملية، بل كان أبعد ما يكون عن المنطق الإجرائي للحدث الذي يمكن أن تتغيّر معه علاقات القوة وخريطة السلطة. لم يحسن قراءة ما يحدث، بل اشتغل بنفي الوقائع لكي يغرق في مثاليته أو يمارس الإرهاب الفكري، كما يعترف بعض الذين انخرطوا في منظمته الثورية.

ثمة أمر ثانٍ أختلف فيه مع باديو، وهو أن الفلاسفة، كبقية الناس، من حيث علاقتهم بأهوائهم وميولهم، بل هم أكثر من سواهم من حيث عشقهم لذواتهم وتعلقهم بأسمائهم ونصوصهم ومكانتهم..

كما أن التجاوز لا يعني التحليق في سماء المتعاليات، ولا الانسلاخ عن الطبيعة؛ فالفرد في النهاية هو أناه، أي خصوصيته وفرادته. وما يتعدى الأفراد أو الجماعات، إنما هو الحيّز العمومي والوسط التداولي أو الوسيط المفهومي والمجال التواصلي، أي ما يتيح التوسط والتبادل بين البشر.

 

كاتب ومفكر لبناني