لا يأتي التغيير دفعة واحدة، وإن جاء هكذا فإنما يكون انفعالا سريعاً في مجيئه وأسرع في ذهابه، وزوال آثاره ظاهرة وباطنة.. أما التغيير الذي يأتي على مراحل تنبني إحداها على الأخرى، فإنه يكون مدروساً وموزوناً، لا يتم الانتقال فيه من مرحلة إلى مرحلة تالية إلا بعد أن تُعطى السابقة حقها، وتحظى بقبول الناس وإقبالهم، بعد استيعابها جيدا، والتشبع بتفاصيلها، وتكون آثاره أكبر، وانتشاره أكثر، ويكون عمقه في الوجدان الجمعي أشد منه في حالة التغيير المفاجئ، الذي يأتي دون سابق تمهيد أو إنذار.

هذا هو شأن التغيير عموماً، سواء كان إيجابياً.. نحو الأحسن، أو سلبياً.. نحو الأسوأ.. إلا أن الأمثلة التي سأسوقها خاصة بالتغيير السلبي، لأن مظاهره هي التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع، وهي مظاهر يلحظها المجتمع فترة من الوقت، حين تبدأ بشيء من الاستحياء، فيقابلها ببعض الاستهجان الخفي، وتُسمَع عبارات الإنكار هنا أو هناك، ثم يمضي زمن قصير جدا، وإذا بها تصبح جزءاً منا.. من حياتنا اليومية، وشكلا من أشكال ممارستنا لحياتنا، سواء شاركنا به أو لم نشارك.. إنه موجود حولنا ومؤثر فينا، شئنا ذلك أو أبينا.

لو تلَفَّتَ أي واحد منا حوله.. عفواً، لو التفت أي واحد منا إلى نفسه أولا، لوجد أنه يسير بهذا القانون الطبيعي في الحياة، قانون التغيير التدريجي.. المرحلي، الذي يأخذ بيدنا دون أن نشعر، لينقلنا من حال إلى حال، فإذا بنا لم نعد نشبه أنفسنا، وإذا بنا نتشابه مع غيرنا، خارجيا وربما داخليا أيضا، لكننا كما قلت، لا نشبه أنفسنا.

أما لو تلفت أي منا حوله ثانيا.. فسيجد أن أموراً كثيرة كانت قبل بضع سنين غير واردة على ذهن، وحين بدأت تتسرب إلينا كانت تأتي على خجل وشيء من خوف من ردةِ فعلٍ، تردعها وتردها على أدبارها خائبة، لكن شيئاً فشيئاً يصبح لها حيز واسع جدا بيننا، ولنا في كثير من المظاهر السائدة حولنا أكبر الأمثلة.

من هذه المظاهر أشكال الفتيات في الأسواق اليوم. في كل مرة أتوجه فيها إلى أحد المراكز التجارية، أظن أنني أخطأت وتوجهت إلى حفل زفاف «مختلط» لستُ مدعوة له! ثم أكتشف أنني في مركز تسوق، ولكن الفتيات هنّ المخطئات في وجهتهنّ، ولا شك أنهن كنّ يقصدن حفل زفاف وإذا بسياراتهن تأخذهنّ جميعاً إلى مراكز التسوق، خطأ! هذا هو تفسيري ـ وإن كان غير منطقي ـ لما أراه ولا أستطيع أن أفهمه. وأتساءل: كيف حدث هذا؟ وكيف أصبح خروج الفتيات بكامل زينتهن إلى الأسواق، أمراً طبيعياً هكذا، دون اعتراض من قريب أو غريب، ولا أجد إجابة.

وكذلك الأمر مع انتشار الهواتف الذكية بين أيدي صغار الفتيان والفتيات، مع كل ما تتيحه من إمكانيات ذات حدّيْن، كيف أصبح هذا أمراً عادياً وبسيطاً ومقبولا؟ حتى قبيل سنوات خَلَتْ كان كثير من الناس يرفضون فكرة أن يكون لدى نسائهم أي شكل من أشكال الهواتف المحمولة، وكانوا يمنّون عليهن بالهواتف الأرضية، والآن أصبح لكل فرد في العائلة ـ كبيراً أو صغيراً ـ هاتف أو أكثر، ومعظمها هواتف ذكية، أظنها وُضعت في الأساس لأصحاب الأعمال والأموال الذين يحتاجون إلى متابعة مصالحهم باستمرار في حلّهم وترحالهم، فإذا بهذه الهواتف أصبحت وسيلة للعب والدردشة والتعارف، وتبادل النكت والطرائف التي ستنشئ جيلا سطحياً يكمل سطحية جيلٍ سبقه.

هذا على مستوى التغيير المادي المحسوس، وهو تغيير باهظ الثمن دون شك، إلا أن هناك أموراً أخرى غير محسوسة تسرب إليها التغيير أيضا، وستكلفنا ثمناً أكبر بكثير من ثمن التغيير المادي، لذلك لا بد من وقفة حقيقية للمراجعة والضبط؛ فقد أصبح البعض يبتعد شيئا فشيئا عن عاداتنا الأصيلة التي كنا وما زلنا نفاخر بها غيرنا من الشعوب، لأننا من الدول التي بقيت محافظة على أصالتها وتراثها، ولم تنجرّ خلف موجات الحداثة المنفلتة من عقالها، والمتحررة من أصالتها كما حدث مع غيرنا، ولكن تجب الإشارة إلى أن الأصالة والتراث ليست كلمات تُردَّد فقط، وليست خاصة بالأمور المادية التي هي كنوز نضعها في أعيننا ونحرسها بقلوبنا، إنما هي كل ما نمارسه في حياتنا من سلوكيات أخلاقية تقوي أواصر المجتمع وتربط أفراده ببعضهم، كالقيام بواجبات الجار، وإكرام الضيف، وقول الحق ولو على النفس، وغيرها من أمور توشك أن تصبح إرثاً من الماضي عند البعض، مع أنها كانت حتى وقت قريب جزءا لا يتجزأ منا، من ممارساتنا اليومية وعاداتنا وتقاليدنا التي يجب أن نوصلها للأجيال اللاحقة، كما أوصلتها لنا الأجيال السابقة.