توجد أساسيات مهمة في الحياة، وفي طريقة تعاطينا معها من جوانبها المختلفة، لكن التأمل في واقع حياتنا يجعلنا نشعر أن هذه الأساسيات أصبحت شبه مفقودة، لأن تصرفاتنا لا تمثلها، ولا تعكس قناعة راسخة بها قارّة في نفوسنا. من أبسط هذه الأساسيات إدراكنا لأمور مثل: تعدد الطرق للوصول للهدف، وحتمية وجود المراحل في الحياة، وضرورة التركيز في كل أمر على حدة وعدم الخلط بين الأشياء. هذه أسس بسيطة لفهم الحياة، والتمكن من الإنجاز والعطاء ثم جني ثمارهما، لكنها تبدو غائبة للأسف عن الكثيرين منا.

إن التأمل في سلوك البعض وطريقة ممارستهم لجوانب حياتهم المختلفة، قد يوصلنا إلى نتيجة لا تسرّ كثيرًا، لكنها تمثل الواقع في كل الأحوال، وهي أن الكثيرين لا ينجزون أعمالهم كما ينبغي، ولا يستثمرون أوقات عملهم في تقديم كل ما يمكنهم تقديمه، لأنهم يظنون أن تأدية العمل لها وجه واحد فقط، وطريقة واحدة، هي تلك التي تعلموها أثناء الدراسة، أو التي عُلِّموها في أول أيام التحاقهم بالعمل، ولم يجتهدوا بعد ذلك في التطوير أو إيجاد طرائقهم الخاصة في التعامل معها. لذلك نراهم يذهبون لوظائفهم يوميا، ويقومون ببعض الأعمال المطلوبة منهم، أو ربما بها كلها، ويعودون في منتصف النهار منهكين تماما، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا يعملون.. فهم لا يؤدون أعمالهم حقيقة، بل يمارسون روتينًا مملا يكاد يكون كل شخص فيه نسخة من غيره، ويضيع عمرهم ضياعًا حقيقيًا في «تقليد» الآخرين، كما يضيع وقت العمل الذي تكون الدقيقة والثانية ذات قيمة كبيرة فيه.

ولنا أن نقيس مثل هذا التفريط في قيمتي الطاقة البشرية والوقت، على مختلف الأعمال التي تُمارَس يوميا، مثل الدراسة، وتربية الأبناء، وغيرهما.. فالكل يبدو مستنسخًا من بعضه، وأصبحت مفاهيم التجديد والإبداع، والتنقيب في ذواتنا عن أفكارنا الخاصة، مجرد كلام يُقال، لكن دون فعل حقيقي.. والنتيجة معروفة.

كما أن التأمل يقودنا إلى زعم أننا فقدنا قناعتنا بضرورة أن تكون هناك مراحل ينتقل الإنسان بينها، من أدناها إلى أعلاها بحسب طبيعة الكون.. أصبحنا نعتقد يقينا أننا يمكن أن نصل إلى ما نريد ـ وهو دائما مطلب صعب وعال ـ دون أن نمر على كافة المراحل التي تسبقه.. نبحث عن أقصر الطرق، وأسهلها، وأسرعها.. لذلك نفكر في أمور كثيرة في وقت واحد، ونرغب في فعلها أو الحصول عليها معًا، مع أن الحياة تحتاج إلى صبر وعمل ومغالبة. وقد تكون طريقة التفكير هذه نتيجة طبيعية لنمط التربية الذي كان سائدًا لفترة طويلة، بعد حدوث الطفرة ــ وربما لا يزال مستمرًا إلى الآن لدى البعض ــ وهو يقوم على فكرة جوهرية «لا واعية»، وهي أنه لا يوجد شيء مستحيل، وكل ما لا يصل إلينا، لا بد أن نصل إليه، ونحضره إلينا، وهذه فكرة إيجابية في عدة سياقات، ولكن هذا السياق ليس من بينها. ليس هذا هو المؤثر الوحيد المشكّل لطريقة التفكير قطعًا، لكنه أحد أهم المؤثرات، وقد كان له أثر سلبي لا نزال نجني ثماره حتى الآن.

وأخيرًا، يمكننا أن نلاحظ أننا صرنا لا نستطيع أن نركز في أي شيء ونعطيه جلّ وقتنا.. أو نعطيه ما يستحقه من وقت ليُنجَز كما ينبغي أن يُنجَز. إننا نقوم بعدة أمور في وقت واحد، ولا أعرف كيف نقنع أنفسنا بأننا نستطيع إتقانها كلها، والوصول بها إلى غاية التجويد. من المهم ألا نخلط شيئا بأشياء، ولكننا نفعل ذلك دائما؛ فنحن كثيرو الواجبات، متشعبو الاهتمامات، وكما يقول إخوتنا المصريون: «صاحب بالين كذّاب»، فكيف يكون حال صاحب «عشرين بالا» مثلا!

لا أريد أن يشعر القارئ أنني أبالغ، لكننا بالفعل مشغولون بأشياء كثيرة، قليل منها مهم ومصيري، وكثير منها متصل جدا بجوانب كمالية، ويأخذنا بشكل أو بآخر نحو رفاهية ننشدها في ظل المعروض ـ ولكنه ليس دائما ممكنًا ــ بإغراءاته المتعددة والمتنوعة، التي تهد جبال مقاومتنا وتجعلنا نستسلم لها دون أدنى تفكير.. وهذا كله لا يدفعنا للتركيز في الأعمال التي نقوم بها، ونبذل فيها أقصى ما نستطيعه من جهد، ونستثمر طاقاتنا التي هي ثرواتنا الحقيقية، بل يدفعنا لأن نفكر في كيفية زيادة دخلنا الذاتي.. كأفراد، أما مصلحة العمل التي تؤدي بدورها إلى نهضة مجتمعاتنا ودولنا، فتتراجع أهميتها تلقائيا مع هذه الطريقة في التفكير.

إن الثروة الحقيقية التي تهتم بها دول العالم في الشرق البعيد عنا والغرب الأبعد، هي ثروة الطاقة البشرية من جهة، وثروة الوقت من جهة أخرى، بحيث يقدم كل شخص أفضل ما عنده، مستثمرًا بذلك طاقته كلها، في الوقت المخصص لذلك العمل الذي يقوم به، ليصل إلى ما يريده في الوقت المناسب. وأظن أن هاتين الثروتين هما أكثر الثروات هدرًا في دولنا العربية، إلى الآن على الأقل.