تسييس الصراع في سوق الطاقة النووية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدور صراع خفي في السوق العالمية للطاقة النووية، ويمكن القول ان روسيا باعتبارها من أولى دول العالم في هذه الصناعة تواجه حربا كبيرة في هذه السوق تختلط فيها العوامل السياسية والاقتصادية بشكل واضح، وربما تكون أزمة البرنامج النووي الإيراني مثالا واضحا على هذا الأمر، ومازالت المشاكل تتصاعد بين البلدين رغم وجود اتفاقية تعاون نووي سلمي حديثة بينهما، الأمر الذي دعا الرئيس الروسي ميدفيديف في الحادي عشر من يناير الجاري إلى دعوة الولايات المتحدة مباشرة إلى تجنب تسييس التعاون مع روسيا في ميدان الطاقة الذرية.

لقد بات واضحا أن معظم دول العالم، وخاصة الدول الصناعية أصبحت تعتمد كثيراً على صناعة الطاقة الذرية، ويتنامى اعتقاد لدى العديد من الباحثين أن الطاقة النووية هي الوحيدة قادرة على تلبية الاحتياجات المتنامية بشكل سريع للبشرية، بل إن حياة الإنسان ورفاهيته باتت مرتبطة باستهلاك كميات هائلة من الطاقة، ما يفرض على الكثير من البلدان الانتقال لاستخدام الطاقة الذرية باعتبارها الأرخص والأكثر إمدادا للطاقة، هذا في الوقت الذي تتناقص فيه بشكل ملحوظ احتياطيات مصادر الطاقة الأساسية، وخاصة النفط، ومن المعروف أن الطاقة النووية كصناعة تواجه عقبة أساسية وهي أنها ذات اتجاهين، سلمي وعسكري، الأمر الذي يتوقع معه تصعيد الخلافات حولها أكثر من الخلافات والنزاعات التي شاهدتها الساحة الدولية بسبب النفط.

وتعتبر روسيا من بين أكبر خمس دول منتجة للطاقة النووية، إذ يستخدم أكثر من ‬15 بالمائة من المفاعلات الذرية في العالم الوقود النووي الروسي. ومن المتوقع أن تزداد هذه الأرقام، مع إقبال العديد من الحكومات على تشييد مفاعلاتها الذرية، هربا من ارتفاع أسعار النفط والغاز. ومنذ عدة أعوام وضعت موسكو إستراتيجية لغزو أسواق الطاقة الذرية العالمية، ويمكن اعتبار ذلك من أهم الدوافع التي تجعل الإدارة الأميركية تخوض حربا ضروس لإزاحة روسيا عبر تصعيد قضية البرنامج النووي الإيراني، باعتبار أنه من أهم مرتكزات توسع النفوذ الروسي في أسواق الطاقة الذرية.

والغريب في الأمر أن الولايات المتحدة التي يقلقها نمو النفوذ الروسي في أسواق الطاقة النووية هي نفسها تسعى للتعاون مع روسيا في هذا المجال، وقد دخلت اتفاقية تعاون نووي سلمي بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية إلى حيز النفاذ بعدما صادق الكونغرس الأميركي عليها في نهاية العام الماضي. وتسمح هذه الاتفاقية للشركات الروسية ببيع الوقود النووي في الولايات المتحدة بطريقة مباشرة وبدون مشاكل، وتحقق الاتفاقية فوائد كبيرة للأميركيين أيضاً، مع العلم أن نحو نصف المحطات النووية الأميركية لإنتاج الكهرباء تعمل بالوقود النووي الروسي، وتمثل هذه الاتفاقية فرصة هامة لشركات روسية تعمل في مجال الطاقة النووية لاستغلال تفوقها على الشركات الأجنبية، ويتمثل أحد أوجه التفوق النووي الروسي في تكنولوجيا صناعة الطاقة النووية انخفاض تكلفة إنتاج اليورانيوم المخصب، وتتيح الاتفاقية التي وقعتها موسكو وواشنطن للشركات الروسية إنشاء معامل روسية أميركية مشتركة لتخصيب اليورانيوم تعتمد على التكنولوجيا الروسية في الولايات المتحدة بدون نقل تكنولوجيا صناعة أجهزة الطرد المركزي.كما حققت روسيا نجاحا كبيرا في اختراع مفاعلات تعمل بالنيوترونات السريعة، وبمقدورها تصدير تقنيات من هذا النوع إلى الولايات المتحدة وتسويقها هناك.

ورغم هذا الحجم من التعاون إلا أن واشنطن لا تكف عن وضع العراقيل أمام شركات الطاقة النووية الروسية، سواد داخل الولايات المتحدة أو خارجها.

وكان رئيس مؤسسة «روس آتوم» الروسية، سيرغي كيريينكو، قد أحاط الرئيس ميدفيديف علما بأن الاتفاقية بين روسيا والولايات المتحدة في ميدان الذرة، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ أيام قليلة، تفتح الطريق بأكمله أمام التعاون بين الدولتين في هذا المجال.

وأفاد كيريينكو بأن الولايات المتحدة تمثل سوقاً نووية رئيسية بالنسبة لروسيا، مشيرا إلى أن روسيا تؤمن حتى اليوم ‬40٪ من الاحتياجات الأميركية من الوقود للمحطات الكهروذرية.وأشار كيريينكو إلى أن لشركة «روس آتوم» أصولا في الولايات المتحدة، إذ تملك ‬20٪ من الاحتياطات الأميركية في هذا المجال.

الولايات المتحدة ليس لديها مانع أن تتعاون مع روسيا وتستفيد منها في صناعة الطاقة الذرية، لكن ما يزعج واشنطن هو التغلغل الروسي الواضح في أسواق لطاقة النووية العالمية، وهو الأمر الذي، من وجهة نظر البعض في واشنطن، يهدد مستقبل الطاقة في الغرب، ورغم مضي وقت قليل لا يتجاوز العشر سنوات على دخول روسيا لهذه السوق الواعدة فقد أصبحت تعمل في أكثر من خمسين دولة في كل أنحاء العالم، وتتطلع مؤسسة الطاقة الذرية الروسية «روس آتوم» في العام ‬2011 إلى زيادة عدد الطلبيات الخارجية على خدماتها إلى ‬30 مليار دولار، وذلك بعد أن زادت إنتاجية العمل في «روس آتوم» بنسبة ‬20٪ مما يسمح بتوسيع وزيادة العقود الأجنبية بشكل كبير، ولدي الشركة الروسية اليوم طلبات خارجية بقيمة تتجاوز ‬20 مليار دولار.

السؤال المهم الآن، هل ستقبل واشنطن بريادة روسية لسوق الطاقة النووية مقابل استمرار تعاونهما معا في هذا المجال داخل الولايات المتحدة، أم ستستمر في وضع العراقيل واختلاق المشاكل لإعاقة روسيا؟، وكيف سيكون رد الفعل الروسي؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب.

 

Email