يعاني بــــــعض الـــناس ـــ ذكوراً وإناثاً ـــ من إحكام قبضة المحيط حولهم عليهم. هذا المحـــيط قد يتسع ليشـــــــمل القريب والبعيد، كالوالدين والإخوة والأعمام والأخوال وجــــــــميع أفراد القبيلة الممـــــــتدة، كما قـــــد يكون محــــــــيطاً خاصاً، كالأسرة الصـــــــغيرة والأسرة الكبيرة، وعاماً كالمجـــــــــتمع كاملاً في أحيان كثيرة.. وهم تائهون في كل أحوالهم بين أفراد هذا المحـــيط. في حين يعاني آخرون من عكس ذلك.. أي من عدم حصولهم على الاهتمام الكافي الذي يحتاجه أي شخص سوي، خصوصاً في مجتمعاتنا التي يسود فيها احتضان الكبير للصـــــــغير، أيّاً كان هذا الكبير، وأيّاً كان هــــــذا الصغير.. إنهم تائهون أيضاً، ولكن في محيط من نوع مختلف.
كلا النوعين يعاني الحرمان؛ فالنوع الأول يعاني من حرمان الخصوصية، والحق في التفكير في أمر نفسه واتخاذ القرارات التي يراها صائبة ـ من وجهة نظره الخاصة ـ وهو يدرك جيداً أنه لا يمكنه فعل ذلك إلا بعد أن يرضي هذا المحيط الممتد حوله على قدر اتساع العين والذاكرة، أي بعد أن يقدم الكثير من التنازلات كي يصل إلى منطقة وسطى بين رغباته ومعايير المحيط التي تتنوع وتتعدد أوجهها، لكنها في النهاية غالباً ما تدور حول محاور ثابتة. أي أنه ـ لو تأملنا حاله بعمق ـ يعود ويقرر ما يريده الآخرون، وليس ما يريده هو، ويفعل ما يراه الآخرون صواباً من وجهة نظرهم، وليس ما رآه هو صواباً من البداية وقبل أن يقدم التنازلات. ولا يفوتنا أن نذكر أنه قد يحدث ـ في بعض الأحيان ـ أن يتحكم الأموات في مصائر الأحياء، أي أن يستمر رفض أمر ما لأن شخصاً في العائلة رفضه حين كان حيّاً، ولا بد من الوفاء لرغبته بعد وفاته، وبذلك يموت الأشخاص وتستمر القيود في أداء وظائفها وفاء لرغبات أولئك الأشخاص، حتى إن كانت تلك الرغبات ذاتية محضة، ولا تستند إلى أساس من دين أو عقل في بعض الأحيان!
والنوع الثاني يعاني من حــــــــرمان الاهتمام، الذي هو وجه من أوجه التعبير عن الحب.. وهؤلاء يقومون بما يريدون أن يقوموا به، ويمارسون حياتهم كما يشاءون، ولا يحتاجون إلى أكثر من «إعلام» من حولهــــــم بما سيفعـــــلونه، وليس ذلك من باب الاستئذان أو المـــــــشــــــورة، بل لمجرد الإعلام لا أكثر ولا أقل، وهكذا ينشأون دون أن يعرفوا الصواب من الخطأ، وما يصح شرعاً وعُرفاً وقانوناً وما لا يصح، وفي أحيان عدة يقعون في «مطبات» كان من الممكن تجنبها لو وجدوا من ينبههم علــــــيها.. ربما يتعلمون أشياء كثيرة، لكن من أخطائهم الخاصة، التي قد تكون صغيرة ومحتملة، وقد تكون أكبر بكثير من قدرتهم وقدرة من حولهم على احتمالها وتحمل تبعاتها.
ومثل هذا النوع كثيراً ما يغبط النوع الأول على وجـــــوده في محيط يغمره بكل الاهتمام الذي يجده، ويرعى أدق تفاصيله، ولا يســــمح له بالتمـــــادي في مــــا يريده، دون أن يطلب منه أن يتوقف في أي وقت أو عند أي مرحلة. ومن الطبيعي أن يشــــــعر النوع الأول أيضاً بغبطة هـــــؤلاء الذين يسـتطيعون فعل ما يريدون، دون الرجوع لعدد لا حصر له ممن له الحق في الإدلاء برأيه في أبسط أمور حياتهم الخاصة، وكذلك في أكثرها تعقيداً ومصيرية.
إنهما حالتان متناقضتان، حالة الاهتمام المفرط، لدرجة التدخل في أدق تفاصيل الشخص وعدم منحه فرصة الاختلاء بنفسه، حتى ليشعر وكأن هناك ألف عقل يفكر معه في شؤونه الخاصة، وألف عين ترقب كل خطوة يقدم عليها.. وحالة عدم الاهتمام المفرط كذلك، الذي يكون ملفوفاً بعبارات الثقة والتشجيع والرغبة في إعطاء الفرصة لكي يعيش الشخص حياته، وفق اختياراته ورغباته الخاصة، لكن الشخص يشعر أنه مهمل وغير مهم، وأنه لا يجد من يشاركه لحظات فرحه وحزنه. وبهذا، يبدو وكأن المنطقة الوسطى ليس لها وجود في حياة هؤلاء وأولئك، وكأن الوصول إليها أمر بالغ الصعوبة، مع أن الأولى أن يكون الوصول إلى الأطراف هو الأصعب.
لا يعني هذا ـ بالطبع ـ أن الناس إما هؤلاء وإما أولئـــــــك فقط، بل من الطبــيعي أن يتفاوت النوعان أساساً في درجة الإفـــــــراط في الاهتمام؛ في الأول، وفي عدم الاهتمام؛ في الثاني. لكن هناك أيضاً من يقف في المنطقة الوسطى في كل مجتمع، وهم الذين يوجدون نوعاً من التوازن في مجتمعاتهم، وإلا لكانت الحياة أكثر صعوبة مما هي عليه الآن، بالنسبة لجميع الأطراف.