غازبروم.. عملاق يرعب واشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

على ما يبدو أن عملاق الغاز الروسي «غاز بروم» قد أصبحت تشكل مصدر قلق ومشكلات بالنسبة للغرب، وخاصة واشنطن، حتى باتوا يتعاملون معها سياسياً أكثر منه اقتصادياً، وقد اتضح اهتمامهم في واشنطن بهذه الشركة العملاقة التي تحتكر وحدها أكثر من ربع انتاح الغاز الطبيعي في العالم من خلال الوثائق الدبلوماسية الأميركية التي كشف عنها الموقع الإلكتروني «ويكيليكس» مؤخراً، حيث نشر الموقع ضمن سلسلة جديدة من المعلومات السرية برقية للسفير الأمريكي لدى موسكو جون بايرلي مرسلة إلى واشنطن يقول فيها إن شركة «غازبروم» الروسية تمثل الاحتكار الحكومي غير الفعال، وأشارت البرقية التي نشرت مجلة «شبيغل» الألمانية كذلك أجزاء منها يوم ‬6 يناير إلى عدم ارتياح الأميركيين إزاء نشاطات عملاق الغاز الروسي على الساحة السياسية في داخل روسيا وخارجها، ويرى السفير الأميركي، حسبما ذكر في برقيته، أن الخطوات التي تتخذها «غازبروم» تخدم في الأساس مصالح النخبة السياسية الحاكمة في روسيا وتوجهاتها، ولا تخدم الاقتصاد الروسي بشكل فعال، وتشير البرقية إلى أن غاز بروم التي تسيطر على ثروات هائلة من الغاز والنفط وتملك أكبر شبكة خطوط أنابيب في العالم تقدر بعشرات الآلاف من الكيلومترات لا تملك في الوقت نفسه مقومات الشركات العالمية القادرة على المنافسة في السوق بسبب سيطرة التوجهات السياسية للدولة الروسية عليها، ويقول السفير الأميركي في برقيته أن الأرباح والعوائد الكبيرة التي حققتها الشركة في الأعوام الماضية دخلت معظمها في ميزانية الحكومة الروسية ولم تساهم في إنعاش الاقتصاد الروسي الذي يعاني من مشكلات كثيرة، وتناولت البرقية أيضا استغلال الكريملين والحكومة الروسية لهذه الشركة العملاقة واستخدامهم لها كأداة ضغط سياسية على الدول المجاورة التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الغاز الروسي كمصدر للطاقة، ولا تستبعد البرقية أن تستخدم موسكو هذه الشركة في المستقبل لفرض سياساتها على أوروبا التي باتت تعتمد بنسبة تزيد على ‬60٪ من مصادرها من الغاز الطبيعي على شركة غاز بروم الروسية.

من الواضح أن شركة غاز بروم الروسية باتت مستهدفة من الغرب وواشنطن، وهذا الأمر كان واضحاً منذ سنوات التسعينات الماضية، حيث انتشرت في الإعلام الغربي مقولة تقول ان «روسيا لا تملك من مقومات الدولة السوفييتية العظمى سوى ترسانتها النووية وشركة غاز بروم»، ونذكر أنه عندما بات واضحاً في عام ‬2007 أن الرئيس فلاديمير بوتين لن يرشح نفسه للرئاسة مرة ثالثة انتشرت في الغرب شائعات تقول ان بوتين سيضحي برئاسة روسيا من أجل أن يتولى رئاسة شركة غاز بروم العملاقة التي يستطيع من خلالها أن يكون ثروة كبيرة يصبح من المليارديرات وهو بعيد عن السلطة، وأن يشارك في نفس الوقت بفاعلية في توجيه السياسة الروسية، لكن بوتين خيب هذه الشائعات ولم يتول رئاسة غازبروم لكنه في نفس الوقت أخضعها تماما لنفوذ وسلطة الدولة.

الواقع أن شركة غازبروم المعدودة من أكبر عشر شركات عملاقة في العالم ليست شركة حكومية، بل هي شركة خاصة مساهمة تساهم فيها الدولة بنصيب ‬51٪، لكن أهمية الشركة اقتصاديا بالنسبة للدولة أنها تؤمن وحدها نحو ‬20٪ من عائدات الضرائب في روسيا، وقد طورت الشركة نفسها كثيرا خلال السنوات العشر الماضية، ولم تعد مجرد شركة لإنتاج وتصدير الغاز والنفط بل تحولت إلى مؤسسة اجتماعية روسية، ويتجلّى هذا في امتلاكها لشبكة من المرافق والمصالح العامة مثل المستشفيات وإصدار الصحف والدوريات بل وبناء بعض «الأحياء» التي يعمل السواد الأعظم من قاطنيها في إحدى المؤسسات التابعة لغازبروم، كما أصبح لها معاهدها التعليمية الخاصة لإعداد العاملين فيها، وأصبح لها بنوكها الخاصة بها، كما تساهم بشكل فعال في الأعمال الخيرية في المجتمع الروسي.

السبب الرئيسي للقلق في الغرب من شركة غاز بروم الروسية هو نفوذها الكبير في سوق الغاز في أوروبا، إذ تحتكر هذه الشركة الروسية وحدها أكثر من نصف إمدادات أوروبا من الغاز الطبيعي، وهذا أمر ترحب به أوروبا كثيرا لأنها تشعر باطمئنان كبير للجارة الكبيرة روسيا كمصدر للطاقة لها، ولكن هذا الوضع لا يرضي واشنطن التي باتت تقلق بجدية من تغلغل النفوذ الاقتصادي الروسي في أوروبا، وقلق واشنطن يستشعره الأوروبيون لكنهم لا يعيرونه اهتماما في سبيل حصولهم على الطاقة، ولهذا تحمس كبار الأوروبيين مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم لمشاريع شركة غاز بروم في أراضيهم، وحتى دول شرق أوروبا التي كانت تحت عباءة موسكو السوفييتية سابقا والآن تنفر منها وتهرول نحو واشنطن، هي أيضا رحبت بمرور خطوط أنابيب غاز بروم عبر أراضيها لتستفيد هي الأخرى من مصادر الطاقة الروسية.

تسعى روسيا دائما للتأكيد على أن الاقتصاد ينفصل تماما عن السياسة في تعاملاتها مع الدول الأخرى، ولكن واشنطن التي مازالت تتعامل مع روسيا بمنطق ومفاهيم الحرب الباردة لا تريد أن تقتنع بذلك، وتريد أن تقنع الآخرين أيضا بأنها على حق.

 

Email