دائماً ما كان يحدثني والدي عن الأدوار المهمة التي كانت تؤديها فئة التجار في الماضي، وخاصة في فترة ما قبل ظهور النفط، حيث كان البدو القادمون من الصحراء وأهل الغوص، يعتمدون بشكل أساسي على التموين الذي يقدمه التجار لهم، والذي كان يدون في دفتر الحساب حتى يتمكن أصحابه من دفعه كلما أتيحت الفرصة لذلك، دون إبداء أي تذمر حتى ولو طالت مدة الدين؛ بل على العكس تماماً، فقد عُرف عن تلك الفئة من التجار في تلك الفترة الصعبة وذلك الزمن القاسي، حسب ما تناقلته الرواية الشفهية، حسن تعاونهم وصدقهم وأمانتهم مع الناس. ولم تقتصر تلك العلاقة التعاونية على فئة التجار والناس العاديين، وإنما امتدت لتشمل علاقتهم بالفئة الحاكمة، حيث ارتبطت الأسر الحاكمة بعلاقات اقتصادية واجتماعية مع كبار الأسر التجارية، وكان ما ينظم العلاقة بين الفئتين أشبه بوجود عقد عرفي، ينظم توزيع المسؤوليات، ففئة التجار كانت معنية بالشؤون الاقتصادية، وطبقة الحكام كانت معنية بالشؤون السياسية والأمنية، في ظل علاقة تبادلية لا يمكن أن تستقيم إلا بتكامل طرفيها.

نستطيع أن نقول إذاً، إن طبقة التجار كانت وما زالت تمثل أحد تشكيلات المجتمع المدني، وإحدى طبقات المجتمع العامة التي استطاعت أن تشكل حضوراً بارزاً في المشهد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، قبل ظهور النفط وبعده، في مجتمع الإمارات. فلقد ساهموا في وضع أسس نظام الاقتصاد التقليدي؛ كما يسجل لطبقة التجار حضور مهم في انطلاق الحركات الوطنية الإصلاحية التي شهدتها المجتمعات الخليجية، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، تلك الحركات التي طالبت بسلسلة من الإصلاحات الديمقراطية، كإنشاء مجالس شورى على سبيل المثال، كما كان يحسب للتجار اهتمامهم بنشر الثقافة والتعليم في المجتمعات الخليجية قبل ظهور النفط، فقد كانوا ـ على سبيل المثال ـ يجلبون من خلال سفراتهم العديد من المجلات الثقافية، وكانوا يستضيفون رموز الفكر والثقافة في العالم العربي، وقد أسسوا العديد من المدارس والمراكز الثقافية والدينية. فلا يمكن تجاهل دورهم هذا، حيث كانوا هم المحرك الأساسي وراء تأسيس الفكر التنويري والثقافي في المجتمعات الخليجية.

صحيح أنه بعد ظهور النفط تغيرت المعادلة، حيث انحسر الكثير من الأدوار التي كان يؤديها التجار، خاصة بعد ظهور الدولة وقيام الحكومات بتولي مسؤولية تقديم الخدمات لمواطنيها، إلا أن التجار استفادوا بشكل كبير جداً من التنظيمات المالية والإدارية التي وفرتها تلك الحكومات، وبرزت بجانب فئة التجار فئة بورجوازية، وهي تعتبر من الفئات الاجتماعية التي نشأت بعد ظهور النفط واستفادت من الأوضاع الاقتصادية المنتعشة في المنطقة، واستطاعت هذه الفئات أن تستحوذ على النفوذ الاقتصادي والاجتماعي ونجحت في ذلك إلى أبعاد معينة.

لنرجع الآن إلى مناقشة قضية المقال الرئيسية، والتي تتمثل في الأدوار الراهنة التي يؤديها التجار ورجال الأعمال تجاه مجتمعاتهم، وذلك بعد استعراض الجانب التاريخي المشرف. يبدو من خلال تتبع دور التجار، أن مستوى عطاءاتهم ما زال محدوداً، وفي نطاق ضيق لا يتناسب مع المستوى الاقتصادي الكبير الذي تحقق على مدار السنوات الماضية، فما زالت الأدوار تقليدية، وتتراوح ما بين تأدية بعض الواجبات الدينية والاجتماعية، المتمثلة في نطاق الصدقات أو الزكاة أو توزيع الطعام أو الملابس، وخاصة مع اقتراب بعض المناسبات الدينية كحلول شهر رمضان على سبيل المثال.

في الوقت الحاضر تغيرت نظرة العطاء العشوائي والخيري لطبقات رجال الأعمال والتجار على مستوى العالم، وأصبح هناك مفهوم آخر يحل بدلاً من تلك المفاهيم السابقة، فأصبح هناك ما يعرف اليوم بمفهوم المسؤولية الاجتماعية، خاصة مع تصاعد دور المجتمع المدني، والاهتمام العالمي الكبير بترسيخ هذا المفهوم الاجتماعي، وتحفيز القطاع الخاص للمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات.

فالمطلوب اليوم، وخاصة في دولة الإمارات، أن يتم تحفيز القطاع الخاص، وبالتحديد فئة التجار ورجال الأعمال، للمساهمة في تحقيق مبدأ التنمية الاجتماعية المستدامة، وإحياء كثير من أدوارهم التقليدية الرائدة، بما يتناسب مع معطيات الوقت الراهن، وذلك عن طريق تأسيس جهة اجتماعية ضمن مؤسسات المجتمع المدني، مثلاً، تقوم أولاً بتنظيم ملتقى حوار وطني سنوي يضم الأسماء الرائدة في مجال المال والأعمال، يحدد مسؤولياتهم الاجتماعية ضمن آلية عملية، تتجاوز مفهوم الأعمال الخيرية المرتبطة بتوزيع الطعام أو توفير ملابس أو خدمات للمحتاجين.

فلا بد من توسيع نطاق خدماتهم ليشمل المساهمة في خلق مشاريع تنموية رائدة، تساهم في تغيير وتطوير المستوى المعيشي، مثل إنشاء مدن سكنية، أو تأسيس صناديق دعم لفئات اليتامى أو طلاب العلم. كذلك لا بد أن يمتد دورهم في التقليل من الاعتماد على العمالة الأجنبية، والبدء في عمليات توطين حقيقية لأبناء الوطن، فهذا أقل ما يمكن أن يفعله أصحاب هذه الفئة لهذه الأرض المعطاء، التي لم تبخل في مساعدتهم على تحقيق ما توصلوا إليه من ثراء.