الاحتقان الطائفي في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

زادت الأحداث التي لها أبعاد طائفية في مصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وطرح البعض نظريات وأطروحات حول أن مصر تعاني من أزمة طائفية، ولم ينف رموز الحكومة المصرية هذا الأمر، لكنهم أعادوا السبب إلى أيادٍ خارجية تعبث بأمن مصر وسلامتها. وفي كل الأحوال فإن المسألة الطائفية وضعت نفسها على رأس الأولويات المصرية في الفترة الراهنة، بعد أحداث كنيسة القديسين في الإسكندرية، ولكن الخلاف بين المراقبين المهتمين بالشأن المصري، سيتركز حول التسمية، وهل هي فتنة طائفية أم أنه من المناسب أن يطلق عليها مسمى آخر؟

ويقول أنصار نظرية وجود أزمة طائفية تؤدي إلى فتنة طائفية في مصر، إن هناك تمييزا في المعاملة بين المسلمين والمسيحيين، وأن أكبر دليل على ذلك هو عدم المساواة في عملية بناء دور العبادة، خاصة وأن الحكومة تعطل تمرير قانون بناء دور العبادة الموحد، الذي تمت صياغته بواسطة المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو مجلس مصري شبه حكومي، وبالتالي فإن القانون لا يمكن أن يشكل تهديدا لاستقرار الدولة.

ويقول أنصار هذا الرأي، أيضا، إن هناك تمييزا في تولي المناصب الكبيرة بين المسلمين والأقباط، ولكن الأزمة تكمن في ثقافة المجتمع، حيث تؤمن نسبة من المصريين بالأفكار السلفية التي تعادي المختلفين في الدين. وهذه الأمور كلها تتفاعل في وعي الأقباط، وتنتج الأحداث الطائفية على النحو الذي حدث في بداية شهر نوفمبر الماضي، على خلفية أحداث منع تحويل مبنى إداري تابع لكنيسة العمرانية، إلى كنيسة مستقلة للعبادة.

على الجانب الآخر، هناك رؤية أخرى أوسع وأكثر شمولا لما تشهده مصر من أحداث طائفية، وهذه الرؤية تقوم على أن مصر تشهد احتقانا سياسيا، أحد تجلياته هو الاحتقان الطائفي الذي نشهده حاليا، والذي تجسد في التظاهرات التي نظمها الأقباط في المناطق السكنية الأكثر كثافة لهم، وهاجموا فيها عناصر الأمن بالحجارة، ورددوا هتافات تحمل الطابع الطائفي والسياسي.

ويدلل أنصار هذا الاتجاه بالخلفية الاجتماعية للذين يشاركون في تظاهرات الأقباط، ومعظمهم من الشباب العاطل عن العمل، الآتي من مناطق فقيرة بعضها عشوائيات المدن الكبرى، وعلى الأخص القاهرة والإسكندرية.

ولم تحتضنه الدولة فوجد ملاذه في الكنيسة، وتراكم لديه القهر الاجتماعي والسياسي ففرغه في الأحداث الطائفية، وهي الأحداث الوحيدة التي تتعامل أجهزة الأمن معها بحساسية خوفا من أن تتفاقم. فنفس هؤلاء الشباب لو خرجوا يحتجون على البطالة والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، لتعاملت معهم أجهزة الأمن بقسوة أشد ولم يجدوا من يطالب بالإفراج عنهم، مثلما حدث مع الذين تم إلقاء القبض عليهم في أحداث العمرانية قبل أسابيع، والذين طالب البابا شنودة نفسه بالإفراج عنهم، واعتكف في دير وادي النطرون حتى تم الإفراج عنهم جميعا.

وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن قيمة المواطنة، بل ووضع مادة في التعديلات الدستورية الأخيرة من أجل تفعيلها، إلا أن ذلك لم يجاوز الخطاب الإنشائي، أما الواقع نفسه فيتناقض تماما مع هذا الحديث ويتصادم معه، لأن المواطنة لا تتعلق فقط بالعلاقة بين المسلمين والأقباط، وإنما تتجاوز ذلك إلى كل المواطنين الذين يجب أن يواجهوا بمعاملة موحدة، وهو الأمر الذي لا يحدث غالبا.

حيث يلعب العامل الطبقي دوره في هذا الشأن، بعيدا عن كون المواطن مسيحيا أم مسلما، لأن توجهات السلطة تصب لصالح شريحة اجتماعية محدودة، بغض النظر عن باقي الشرائح من المسلمين أو الأقباط، أي أن التمييز يكون على أساس اجتماعي، وليس على أساس طائفي، الأمر الذي يؤكد أنها مسألة مصرية عامة أكثر منها مسألة طائفية بالتحديد.

وبسبب الأزمة الاجتماعية هذه، استطاعت مؤسسات ومنظمات دينية إسلامية أو قبطية، أن تستغل الفراغ الذي تركته السلطة في رعاية الفقراء وبعض شرائح الطبقة الوسطى، لكي تقوم تلك الجهات بالرعاية. ووسط هذه الرعاية تشبعت الشرائح الاجتماعية التي استفادت، من أفكار هذه المؤسسات والمنظمات، وبعض هذه الأفكار يحمل بعدا طائفيا يصل إلى درجة ازدراء دين الآخر.

وبالتالي فإن الأسلوب المتبع مع كل حادث طائفي، وهو عناق رجال الدين المسلمين والأقباط والهتاف للوحدة الوطنية، لن يجدي ولن ينهي «الاحتقان الطائفي»، وإنما سيكون مقدمة لاحتقان جديد. كذلك فإن المواجهة الأمنية أو تلك التي تركز على المضمون الديني أو الطائفي، مثل السماح ببناء عدد من الكنائس أو ترميم عدد آخر، لن تجدي هي الأخرى، لأن ذلك يعد اشتباكا مع الأعراض فقط، وليس مع السبب الأساسي للمشكلة.

وهو الاحتقان الاجتماعي الذي يعاني منه المسلمون والأقباط على السواء، وبالتالي فإن عودة الدولة المصرية لدورها الأساسي، كي تكون الدولة الراعية لمواطنيها على أساس مبدأ المواطنة، هو شرط أساسي للتعامل مع هذا الاحتقان. إن رد الفعل التلقائي للمصريين إزاء أحداث الإسكندرية، والخوف الذي اعتراهم على بلدهم من أن ينجر إلى أحداث طائفية حقيقة بين عنصري الأمة، يؤكد أن الغالبية العظمى من المصريين ضد الطائفية.

وأن مبدأ المواطنة يعتمل في نفوسهم، بعيدا عن الاستنتاجات التي يطرحها غير العارفين بالطبيعة المصرية حول أن الطائفية تحولت في مصر إلى ثقافة. فقد وضح أن الإسلام المصري ما زال هو المنهج الوسطي، كما أن موقف رجال الدين الأقباط من غضب الشباب القبطي، يؤكد أن الاعتدال هو الذي يسيطر على الكنيسة القبطية، وأن عوام المصريين ما زالوا يتبعون التدين المصري الذي يخاصم التطرف ويتعايش مع الآخر الديني بكل حب وود، وهو الأمر الذي يعني أن التغلب على هذه الأحداث أمر سهل.. ولكن الصعوبة تكمن فقط في اختيار الأسلوب، وهو علاج الأسس وليس الأعراض.

 

Email