يعيش بعض الناس حالة «عشق» مع وظائفهم، تجعلهم ينتظرون إطلالة الصباح كي يرفرفوا بأجنحة الشوق للقائها، فيذهبون إليها بوجوه مشرقة، تزداد إشراقًا مع تزايد المسؤوليات والأعباء، ولا تضيق بها ولا بالزملاء ولا الموظفين الآخرين، ولا المراجعين إن كانت من نوع الوظائف التي تتطلب احتكاكًا بهم. مثل هؤلاء الناس قليلا ما يتذمرون أو يشتكون، وكثيرًا ما يعملون.. وقد يحملون ـ أحيانًا ـ شيئا من متعلقات العمل معهم إلى منازلهم.. أماكن راحتهم، ويواصلون عملهم فيها بحيث لا تشرق عليهم شمس يوم جديد، إلا وقد انتهوا من عمل «الأمس» الذي كان يمكنهم تأجيله إلى «الغد»، لكنهم فضلوا الانتهاء منه بالأمس للاستعداد لغيره في الغد!
إنهم لا ينغمسون في عملهم لأنهم لا يجدون شيئًا آخر يفعلونه، أو لأنهم ليست لديهم حياة اجتماعية يعيشونها بتفاصيلها كغيرهم من الناس، فقد يكون هؤلاء من أكثر الأشخاص اجتماعية وألفة للناس، لكن إحساسهم بالواجب تجاه عملهم الذي يمارسونه بحب وعشق، يأخذهم أحيانًا من متع الحياة الصغيرة التي لها آثار كبيرة على النفس، فيؤجلونها، وربما ينسونها، لأنهم يجدون متعًا مشابهة لها في وظائفهم وأعمالهم التي يقومون بها، فيحدثون نوعًا من التوازن النفسي بين ما يفقدونه وما يحصدونه.
حالة العشق بين الشخص وعمله ليست حالة منتشرة، ولا هي نادرة أيضا، يمكننا أن نجد في كل موقع عمل شخصا أو أكثر يمثلون هذا النموذج «العاشق»، وغالبًا ما يكون هذا «العاشق» قد اختار وظيفته بإرادته، حتى إن كانت في غير التخصص الذي قضى سنوات عدة في دراسته، المهم هو الرغبة في القيام بعمل ما، وليس فقط الرغبة في الحصول على مبلغ ثابت في آخر الشهر، بغض النظر عن حجم المجهود المبذول، إن بُذِل.
الحالة الأكثر انتشارًا هي حالة اللاعمل، البطالة المقنعة كما يسمونها، هذا الكم الهائل من الشابات خصوصا الموجودات في كل مكان، دون عمل حقيقي يتطلب وجودهن جميعا.. في كل مكان توجد مجموعة فتيات تملأ وقتها ويديها بالانشغال بالهواتف الذكية ـ فاقعة الألوان غالبًا ـ وتتبادل رسائل «عزيزي..» مثلا و«محشش..» وما إلى ذلك، لكنها لن تفكر في أن تملأ رأسها بإجابات أسئلة ربما تُوَّجه إليها عدة مرات في اليوم، وفي كل مرة ترد بجواب واحد لا يتغير: لا أعرف، اسأل الموظف الجالس هناك.. هي مجرد وجوه جميلة مطلية بألوان تظهرها أجمل.. أقرب ما تكون إلى عارضات أزياء ملابس السهرة في النهار! لكنها أبعد ما تكون عن موقعها الذي تجلس فيه، وأبعد ما تكون عن روح المكان، وعن الإحساس بمسؤولية تبدو أثقل بكثير من كواهلها الغضة، المثقلة بما يكفي بالأصباغ والإكسسوارات، وبجملة الهواتف الملونة التي تحملها، والحقائب التي تنوء بحملها العصبة أولو القوة!
هذان نموذجان حيّان، موجودان بيننا، وبينهما النموذج الطبيعي الذي لا يصل مقام العشق، ولا ينحط إلى رتبة اللاعمل، فقط يؤدي عمله على أفضل ما يكون، بوجه طلق، لكنه لا يبالغ في ذلك، وفي الوقت نفسه لا يقصر عما يجب عليه القيام به.
ولو تركنا النموذج الطبيعي، لأنه طبيعي، وركّزنا على النموذجين السابقين: المفرط في حبه لعمله ووظيفته، والآخر الذي لا يكاد يجد شيئا يفعله ولا يفكر في أن يجده، سنلاحظ أن أكثرهما حظًّا هو النموذج الثاني، الفارغ من كل شيء، الذي يأخذ دون أن يعطي، والذي يصله كل شيء دون أن يتعب في شيء، هو مرتاح نفسيًا وجسديًا، لا يثقل على نفسه بأي شيء ولا يُكرهها على ما لا ترغب فيه، كما أنه لا يجد من يطلب منه ذلك، طالما أنه حاضر وموجود في موقع عمله في المواعيد الرسمية، بغض النظر عما يفعله أثناء وجوده طوال هذه الساعات! هذا النموذج يحافظ على وظيفته «بقدرة قادر»، ولا يغادرها إلا حين يرغب هو شخصيا في ذلك، وعلى العكس تماما مما هو متوقع في مثل هذا الوضع، نجده يرتقي أعلى الدرجات، ويصل إلى حيث لم يتوقع أن يصل في خياله «الفارغ» غالبًا..
أما النموذج العاشق، الذي يكاد يذوب عشقًا في وظيفته، فحظه معاند معاكس مشاكس؛ فعلى الرغم من أنه على استعداد مطلق لأن يواصل الليل بالنهار ليطور عمله، وينمي مهاراته الشخصية في كل ما يتعلق به، ولا يتقيد بمواعيد عمل رسمية، لذلك قد يأتي قبل موعد الدوام الرسمي، وقد يغادر بعده بساعات، دون أن ينتظر مقابلا ماديًا، إلا أنه إن لم يجد تقديرًا، ولو بعبارات الثناء فقط، حتى إن كانت من باب المجاملة، فهو يجد تجاهلا متعمدًا، أو غضًّا وتقليلا من عمله، أو طعنًا في إخلاصه.. والسبب في الحالتين يكاد يكون واحدًا، ومحله رأس الهرم، إذا كان مفرَغًا بالطبع، فيخاف من الممتلئ..
وفي هذه الحالة يعمل القانون الفيزيائي الشهير بالعكس، فتتجاذب الأقطاب المتشابهة، وتتنافر الأقطاب المختلفة.