عقيدة روسية لأ من الطاقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما ترتبط كلمة العقيدة في روسيا بقطاع معين، فإن هذا يعني أن هذا القطاع يحتل أولوية وأهمية كبيرة في اهتمامات الدولة، والمصطلح يعتبر من موروثات المرحلة السوفييتية، وكان أول استخدام لكلمة «عقيدة» في الاتحاد السوفييتي مرتبطاً بالاستراتيجية العسكرية، وأيضاً ارتبط بعمل جهاز الاستخبارات «كي جي بي»، لكن لم يكن في المجال الاقتصادي مكان لهذا المصطلح، وذلك بحكم أن الاقتصاد السوفييتي كان موجهاً توجيهاً سياسياً في الداخل وفي إطار الكتلة الاشتراكية، ومحاصراً تماماً في الخارج. حتى التصنيع الحربي السوفييتي العملاق الذي كان يحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الأميركي، لم تكن له استراتيجية محددة لإنتاجه وتسويقه في الخارج، بل كان خاضعاً تماماً للتوجهات السياسية، وكذلك الطاقة ومصادرها الهائلة في روسيا؛ من نفط وغاز وفحم وطاقة نووية.

لم تكن روسيا التي كانت تملك الإنتاج الأكبر عالمياً في مصادر الطاقة، تملك الحق في وضع استراتيجية عامة لإنتاج وتسويق ثرواتها من مصادر الطاقة، نظراً لإغلاق الأسواق العالمية في وجهها، الأمر الذي كان يدفعها بحكم التوجهات الأيديولوجية، إلى إهدار هذه الثروات بتوزيعها بأقل الأسعار أو حتى إعطائها مجاناً، ليس فقط للدول الصديقة ذات التوجه الاشتراكي أو الموالية لموسكو، بل حتى للخصوم السياسيين والأيديولوجيين. وكلنا نذكر خط الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا الغربية في سنوات السبعينات الماضية، والذي كان يحمل اسم «مير» أو «السلام»، وينقل الغاز الروسي لتلك الدول دون مقابل.

ورغم أن هذه المرحلة انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وتحرر الاقتصاد الروسي وتحوله إلى سياسات اقتصاد السوق، إلا أن روسيا الحديثة ما زالت تعاني من موروثات الحقبة السوفييتية، خاصة في مجال الطاقة، حيث ما زالت مصادر الطاقة الروسية من النفط والغاز تصل لبعض الدول المجاورة بأسعار أقل بكثير من الأسعار العالمية، وخاصة للجمهوريات السوفييتية السابقة، رغم أن بعض هذه الجمهوريات ليس على وفاق تام في التوجهات السياسية مع روسيا، وأحياناً كثيرة تعمل ضدها.

مثل هذه السياسات أصبحت محل نقد كبير داخل روسيا، وأصبحت مرفوضة، ليس فقط من المعارضة السياسية ورجال الأعمال في القطاع الخاص، بل من جهات رسمية على أعلى المستويات في الدولة، لدرجة أنه من الشائع والمتداول الآن على الساحة السياسية في روسيا، وجود خلاف جوهري بين رأسي الدولة، الرئيس ديمتري ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، حول هذه القضية بالتحديد، حيث يرى الرئيس ميدفيديف أن على روسيا أن تتخلص من كل أعباء والتزامات الحقبة السوفييتية وتنتهج نهجاً جديداً تماماً، خاصة في المجال الاقتصادي، بينما يرى رئيس الوزراء بوتين أنه لا يمكن في روسيا الفصل بين السياسة والاقتصاد، وقد عبر بوتين صراحة عن ذلك أكثر من مرة، قائلاً «إننا لسنا تجاراً يحكمنا السوق، بل نحن دولة كبيرة لها مصالحها السياسية في كل أنحاء العالم، ولا يمكن لنا أن نتعامل مع جميع الدول على أنها مجرد زبائن لنا». وكان بوتين، عندما قال هذا، يتحدث عن سوق السلاح، لكن من الواضح أن هذه السياسة تطبق أيضاً في مجال الطاقة، سواء النفط أو الغاز الطبيعي أو حتى الطاقة النووية التي تبيعها روسيا بأسعار مختلفة لأكثر من خمسين دولة في العالم، الأمر الذي يضر أحياناً بسمعة روسيا ومصالحها في الأسواق العالمية.

ولكن يبدو أن الأمور على وشك التغيير، وأن توجهات الرئيس ميدفيديف أصبحت أكثر قبولاً في المجال الاقتصادي، حيث كانت لدى ميدفيديف اعتراضات دائمة على سياسة تصدير النفط الخام الروسي بكميات كبيرة للخارج، ودون عقيدة ولا استراتيجية محددة، بل بخطط ووسائل مختلفة ومتعددة حسب الدول المستوردة، وكان ميدفيديف يصر دائماً على ضرورة التوجه لتصنيع النفط الروسي في الداخل، من خلال تطوير صناعة البتروكيماويات الروسية التي تعاني من تخلف كبير ولم تخضع لأي تطوير منذ الزمن السوفييتي، بينما كان بوتين يصر على سياسة تصدير الخام لتحصيل أكبر كم من العوائد المالية، في ظل ارتفاع أسعار النفط وفي ظل عدم إقبال الاستثمارات الأجنبية على قطاع الطاقة الروسي.

من الواضح أن توجه الرئيس ميدفيديف هو الذي غلب مؤخراً، حيث كلف الرئيس الروسي الحكومة بوضع عقيدة لأمن الطاقة وتحديد التدابير الملحة لتحقيقها في إطار التوجهات التي وضعها الرئيس نفسه، وقال ميدفيديف في اجتماع مجلس الأمن الروسي منتصف ديسمبر المنصرم: «من البديهي أننا نحتاج إلى منظومة كاملة من التدابير التي تسمح بتنظيم الأمور وتتيح تحديث قطاع الوقود والطاقة الروسي»، مضيفاً أن الاحتياطيات المؤكدة من النفط والغاز في روسيا تُستنفد تدريجياً، ولكنها لا تزال كافية إلى حد كبير. وقال الرئيس إن استنفاد قدرات روسيا من النفط والغاز، قد يؤدي إلى خلل في إمدادات الطاقة وفي اقتصاد روسيا ككل.

 

 

 

Email