تتعب الأرواح، تثقل، تتسخ وتصدأ أيضا.. تكتسب شيئًا من كل هذا وغيره يومًا بعد يوم، ولكنا لا نشعر بذلك ـ إن شعرنا ـ إلا فجأة، كأننا لا نعترف بمعاملات التجزئة، ولا نتعامل إلا بالجملة فقط في كل شيء! وحين ننتبه، نظن أن الوقت قد فات لاستدراك ما حدث، فنستمر في ما نحن فيه دون مبالاة، لأننا دائما نشعر أنه لن يكون هناك أسوأ مما هو كائن بالفعل.. أيضًا في كل شيء! وهكذا نعطي لأنفسنا الضوء الأخضر لنتمادى في ما نحن فيه، ولا نلتفت إطلاقًا لأي إشارات حمراء قد تعترض طريقنا، مهما كان نوعها، فالتوقف لن يفيدنا!

إن طبيعة حياتنا تفرض علينا أن نتعامل مع كثير من الأمور بلا مبالاة، وأن نقسو على أشخاص كثيرين، دون أن نستثني أنفسنا حتى، ونحن نتوهم أننا ندللها لجهلنا بما نفعله، أو بعواقب ما نفعله.. كأن الحياة أخذتنا في طريق بعيد عن الطريق الذي كنا نمشي فيه إبان طفولة أرواحنا، حين كنا نعرف اللونين الأبيض والأسود، ونميزهما بوضوح. أما الآن فمعظمنا يمشي في المنطقة الرمادية وهو لا يكاد يميزها، ولعله يظنها بيضاء أو حتى سوداء، عند أصحاب أمزجة محددة تميل إلى السواد راضية أو مضطرة؛ فأسماء الألوان تغيرت مع ما تغيّر في هذا الزمن، لذلك فإن الذين يقفون في المنطقة الرمادية يرونها بيضاء، وربما شديدة البياض! لا لأنهم يكذبون أو يخادعون، بل لأن اللون مبرمج في أذهانهم تحت هذا الاسم، وقليلون هم الذين يمكن إقناعهم بأن البرمجة في أساسها خاطئة، وما بُني على خطأ لا بد أن يكون خطأ كذلك.

وهكذا، أصبحت المنطقة الرمادية هي المكان الذي يقف عليه عدد كبير من الناس، وعدد آخر منهم يتقافزون في بعض المناطق الملونة بألوان صارخة تلفت الانتباه إليهم أكثر، حتى إن كانت لا تقدم لهم شيئا سوى تلك الألوان المبهرجة والفاقعة، المهم أنهم يجدون عيونا تراهم، وآذانًا تتشنف بأصواتهم، وليس مهمًا ما تقوله تلك الأصوات.. المهم أنها موجودة فقط.. والأهم أنها تعكس بهرجة المنطقة الملونة التي اختاروا الوقوف عليها، ومواصلة حياتهم في دروبها.

ولكن، هل يشعر هؤلاء ـ أصحاب المناطق صارخة الألوان ـ وأولئك ـ أصحاب المنطقة الرمادية ـ أن أرواحهم تبتعد عن نقاء البياض؟ وأنهم يتجهون إلى مناطق يقل فيها الهواء والشمس والماء كلما تعمقت فيها الأرواح أكثر؟ هل يدركون أنهم لن يجدوا وسيلة ليغسلوا أرواحهم ونفوسهم مما يلحق بها في كل لحظة من وسخ أو قذارة، ولن يتمكنوا فيما بعد من حمايتها من الصدأ أو منع الصدأ عنها؟

إن بهرجة الألوان ـ التي تعمي العيون ـ ستحُول دون إدراك الكثيرين لهذا المصير الذي يتجهون إليه، وهذه هي أكبر مساوئ تلك المناطق الملونة، وأكبر مزايا المنطقة البيضاء التي تمتاز أيضًا بوجود مساحات شاسعة فارغة، أي أن الكثافة فيها أقل، نتيجة إعراض الناس عنها، وبالتالي فإن فرص إدراك أي شيء دخيل عليها، تكون أكبر منها في مناطق أخرى.

وفي ظل الغوص أكثر في مناطق الرماد، بلونه وأثره، لا بد أن تتراكم الأوساخ على جدران الأرواح، وسيؤدي تراكمها إلى العفن، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الصدأ، وهي أمور يترتب بعضها على بعض. وإن لم يتدارك الإنسان ما يحدث في المرحلة الأولى، فإنه سيصل حتما إلى الثانية، وكذلك الأمر ما بين الثانية والثالثة وما هو أكثر منها.

لذلك يجب على كل منا أن يجلس مع نفسه، وأن يراجع سلوكياته وأفكاره، لا بمعايير هذا الزمن وإلا فإننا جميعا سنجد أنفسنا في منطقة الأمان، بل بالمعايير الأصيلة، ولن أقيدها بزمن دون آخر، لأنها خالدة حتى إن أعرض الناس عنها ورغبوا في ما يخالفها، فهي لا تفقد أصالتها وصلاحيتها.. ينبغي على كل شخص أن يعود لتعريف الأخلاق، وبتحديد أكثر «مكارم» الأخلاق، وهي أمور لا يختلف عليها قوم دون قوم، أو أهل زمن دون آخر، وأن يقارن بينها وبين نفسه ليعرف أين يقف حقيقةً، وحينها لا بد للألوان أن تظهر بأسمائها الحقيقية كذلك.

ومثل هذه الخلوات مع النفس، ستؤدي دور الهواء والشمس والماء لبعض الأرواح المنتنة، التي تسلل إليها العفن من جميع الاتجاهات دون أن تشعر، وأصبحت تقتات عليه وبه، وهي لا تميز حتى مرارة مذاق قوتها، لأن ألوانه من الخارج تبهر العين، وليس من المهم ما هو عليه حقيقة!