شاء قدر الجغرافيا الفلسطينية أن تكون الورقة التاريخية التي تتلاعب بها إسرائيل من أجل تنفيذ مشروعها في بسط النفوذ، وتحقيق المكاسب في الإقليم تحت وهم إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط.
بالتوازي مع الاندفاع الغربي لاحتلال الشرق العربي، كان هناك تفكير رفيع المستوى، لبناء وإنشاء كيان دائم، يحمي المصالح الغربية الاستراتيجية، إذا ما خرجت قوات الاستعمار في لحظة معينة، ويكون تمهيداً للعودة في مرحلة لاحقة.
في نهاية القرن التاسع عشر، وفي لحظات فوران الاستعمار، ظهرت فكرة «الدولة اليهودية»، وتم اختيار أكثر من مكان في النظام الدولي: الأرجنتين، أوغندا، فلسطين، ومكان بين روسيا، والصين تحديداً في الشمال الشرقي للصين، والجنوب الشرقي لروسيا، ولا يزال قائماً إلى الآن.
لكن وقع الاختيار على فلسطين، التي كانت تخضع للانتداب البريطاني، في اتفاق «سايكس بيكو»، الذي كان يسمى في البداية «سايكس ـ بيكو ـ سازنوف»، الروسي، قبل أن يتم كشف مخطط تقسيم الإقليم الغربي، من قبل فلاديمير لينين، بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وتخرج روسيا الشيوعية من الاتفاق، وتبقى بريطانيا وفرنسا، تتقاسمان الأراضي العربية فيما بينهما.
كما قلنا كان من قدر فلسطين أن تكون تحت الانتداب البريطاني، الذي خرج منها ثم سلمها لدعاة «الدولة اليهودية»، أو «المسألة اليهودية»، التي أعلنها «تيودور هيرتزل»، في مؤتمر بازل عام 1897، واستطاع بعد سنوات قلائل أن ينتزع وعداً بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، من وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت، فيما عرف بوعد بلفور.
ثمانية عقود منذ أن خرجت بريطانيا من فلسطين، وتركتها لجماعة هيرتزل، ثم توالت فيها الحروب، فلم تكتفِ هذه الجماعة بما حققته من اعتراف في الأمم المتحدة، حين قررت الأخيرة تقسيم فلسطين بين دولة يهودية ودولة عربية عام 1947، ومع ذلك اندلعت حرب 1948.
وحازت الدولة اليهودية مساحات أخرى من فلسطين، وطردت سكانها إلى خارج بلادهم، فيما عرف بمأساة اللاجئين، الذين صدر لهم قرار أممي لعودتهم إلى بلادهم وهو القرار 194، الذي لم تنفذه إسرائيل قط، بل إنها تريد أن تطرد وتهجر بقية الفلسطينيين، الذين تمسكوا بأرضهم ورفضوا التهجير.
كان لافتاً للنظر أن يقدم بنيامين نتنياهو أثناء زيارته البيت الأبيض، خطاب ترشيح إسرائيل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام، في وقت يعاني فيه نتنياهو من مطاردة محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ويمارس إبادة جماعية ضد السكان الفلسطينيين.
يعتقد في نفسه أنه زئيف جابوتنيسكي، أبو التطرف اليهودي، أو يظن نفسه ديفيد بن غوريون، فإذا كان بن غوريون، قد أسس الدولة عام 1948، فإن نتنياهو يرى في نفسه المؤسس الثاني لإسرائيل الواسعة ذات الخرائط الممتدة، مستنداً إلى تراث خرافي ووهمي، يهدف إلى الاستيلاء على معظم دول الإقليم العربي، بعد أن يكون قد أجهز على الخريطة الفلسطينية الأصلية، ثم التفرغ لقيادة الشرق الأوسط، كما يردد يوماً بعد الآخر، لكن هذا مجرد حلم ليلة صيف.
إن نتنياهو ومن سبقوه، ومن سيخلفونه، لديهم فلسفة استراتيجية ثابتة تقوم على استخدام ورقة القضية الفلسطينية، لتحقيق مشروعاتهم في الإقليم، وليس لديهم أية رغبة، أو نية لإغلاق ملف القضية الفلسطينية، فهم يجعلونها مجرد جمر تحت الرماد، يشتعل وقتما يشاءون.
ويستخدمونها للمناورات والمفاوضات التي تقود إلى دوائر مفرغة تجعل القضية الفلسطينية في عين العاصفة دائماً، وتحقق الحضور الدائم لإسرائيل على المسرح الإقليمي والدولي.
إنها اللعبة القديمة المتجددة، التي يحترفها قادة إسرائيل منذ تأسيسها، لكن كل هذه الاستراتيجيات والمناورات المتعاقبة بدت مكشوفة وفاشلة وغير قادرة على الاستمرار ومن غير المسموح لها بالعبور.
كل التجارب الواقعية، تقول إنه من دون الحق الفلسطيني في دولة مستقلة، لن يكون هناك لا سلام في الإقليم، ولا خرائط مستقرة في العالم، إنما ما يحدث في المنطقة، هو مجرد لعبة إسرائيلية لإشغال الأمم والنفاذ نحو تصحيح خرائطها التوسعية.
هنا علينا نحن العرب أن نعي جيداً أنه لا بديل عن فلسطين الدولة، وأن الفكرة والمشروع الإسرائيلي بالتوسع والإرباك والتأزيم سيظل قائماً، بل أن المشروع يسير وفق نظرية هنري كسينجر التي تقوم على دبلوماسية: (الخطوة خطوة).