وسائل التواصل في حياة أبنائنا

لقد أضحت التقنيات الذكية ووسائل التواصل جزءاً لا يتجزأ من واقع أبنائنا في حياتهم اليومية، ولم تعد تقتصر على مجرد التسلية العارضة والمتعة العابرة، بل تحولت إلى فضاء واسع مستدام تتردد أصداؤه في وجدانهم وعقولهم.

وتؤثر في شخصياتهم وقيمهم، وهنا يقف الآباء والمربّون أمام مزيج من التحديات والفرص التي تتجلى معاً، وتتمثل في كيفية توجيه هذه الطاقات الرقمية المتدفقة لتتحول إلى أدوات للإبداع والتنمية، لا إلى مجرد تلقٍّ سلبي أو استهلاك يستنزف الأوقات دون عائد قيمي ومهاري.

وفي خضم ما يشهده هذا الفضاء الرحب من متغيرات ومستجدات دائمة يصبح من الضروري مواكبة ذلك، من خلال تجديد أساليب توجيه الأبناء وابتكار استراتيجيات تربوية شاملة تمكّنهم من اكتساب مهارات الاختيار الواعي والاحتكاك المدروس بهذا العالم، والتقييم المشترك لما يتلقونه من محتوى عبر حوار احتوائي مبدع، بعيداً عن الرقابة التقليدية أو التوجيه الجامد.

وهنا يأتي دور الأسرة باعتبارها الحاضنة الأولى الأكثر تأثيراً على الأبناء، فهي المدرسة الأولى التي يكتسبون فيها هويتهم، ويتلقون قيمهم، ويتعلمون طريقة تفاعلهم مع ما يحيط بهم من عالم واقعي أو افتراضي، وهو ما يتطلب استراتيجيات متوازنة تدفعهم نحو التمكين الذاتي من الاستخدام الرشيد لهذه الأدوات.

والتي تنبني على قواعد صلبة من الانتماء الوطني العميق والتربية الإيمانية والأخلاقية المتينة، فلا يمكن لأغصان الاستراتيجيات أن تنبت وتؤتي ثمارها إلا على هذه الجذور المغروسة في نفوس الأبناء والبنات، والتي تبني فيهم الضمير الحي واليقظة الواعية، وبهذين السلاحين «الضمير» و«الوعي» تقوى مناعتهم.

ويكونون قادرين على خوض غمار هذا العالم بفاعلية إيجابية، متمكنين من ضبط النفس والتعامل السديد مع المغريات في الفضاء المفتوح، سالمين من الإفراط أو الانزلاق في أي استخدامات سلبية تضر بهم أو بمجتمعهم.

ومن هذه الاستراتيجيات التربوية تعويد الأبناء على التفكير النقدي البناء تجاه ما يشاهدون أو يسمعون أو يقرؤون، وتشجيع الفضول الموجه لديهم، واحترام تساؤلاتهم، وعدم كبتهم أو تسفيههم، مما يتيح للأبناء أن يجدوا ملجأً معرفياً وعاطفياً وفكرياً مستمراً تجاه كل ما يواجههم.

ومصدراً آمناً يوجههم نحو ما يفيدهم ويعزز قدرتهم على الاستخدام الرشيد للأدوات الذكية، وبدون هذا الاحتواء والانفتاح الأسري مع الأبناء يصبح الأمر صعباً وعسيراً، فما أسهل أن يستخدم الأبناء هذه الأدوات بالطريقة التي يريدون من دون علم والديهم، في عالم تخطى القدرة على الرقابة التقليدية.

وتجاوز حدود الجدران والعيون، وأصبح فيه الطفل يحمل عالماً مفتوحاً هائجاً بين أصابعه الصغيرة، وهو ما يجعل الحضور الأسري الفعال القائم على الحوار والاحتواء ضرورة تربوية، بما يتيح للآباء والأمهات مرافقة أبنائهم في رحلتهم الرقمية بوعي وأمان.

كما يأتي دور الأسرة كذلك في وضع قواعد مرنة لتنظيم أوقات استخدام الأجهزة لأبنائهم، وإدماجهم في أنشطة حياتية واقعية تعيد لهم بناء العلاقة المتوازنة مع الأسرة والمجتمع، وتخفف عنهم سطوة العالم الرقمي، بما يحقق لهم التكامل بين عوالمهم الرقمية وحياتهم الواقعية، ويكرس فيهم روح الانتماء والإنجاز خارج حدود الشاشات.

ولذلك فمن المفيد أن تهيئ الأسرة بيئة منزلية غنية بالبدائل المحفزة، وتخصص أماكن وأوقاتاً للقراءة أو الرياضة أو التواصل العائلي أو غير ذلك من الأنشطة المتنوعة، وخاصة في الإجازة الصيفية التي يجد فيها الأبناء أوقات فراغ كبيرة، ليصبح التواصل الرقمي جزءاً متوازناً في حياتهم.

ولا يكتمل دور الأسرة بالضرورة إلا من خلال وجود القدوة الحية من الأهل في الاستخدام الحكيم والرشيد والمتزن لهذه الأدوات، وخاصة أمام أبنائهم، ليكون التوازن والحكمة شعار الأسرة ككل، وما أجمل أن تتحول اللحظات الرقمية داخل البيت إلى فرص مشتركة للتفاعل البنّاء.

يتشارك فيها الأهل مع الأبناء محتوى نافعاً، أو يناقشون معهم ما يثير اهتمامهم، ومن الضروري أن يخصص الوالدان جزءاً من وقتهم للاطلاع على التطبيقات والمنصات التي يستخدمها الأبناء، ويشاركونهم الآراء والتوجيه والتقويم.

إن بناء أجيال رقمية واعية مسؤولية أسرية ووطنية كبيرة، تتطلب قراءة واعية مستمرة للواقع، والتحلي بالجدية والمسؤولية والابتكار، لبناء جيل يمتلك أدوات التكنولوجيا الحديثة، ويستخدمها الاستخدام الأمثل الذي يعينه على صناعة مستقبله وخدمة وطنه بوعي وإبداع.