الطَّرْق أسفل الجدران

بمناسبة مرور 12 عاماً على اندلاعها، سألني دبلوماسي عربي: ماذا لو لم تحدث ثورة 30 يونيو عام 2013 في مصر؟، أجبته بسؤال: قل ماذا كان سيحدث في المنطقة والإقليم، وليس في مصر فقط؟،

ثم واصلت كلامي: لو كانت جماعة الإخوان وروافدها الإرهابية استمرت أكثر من عام لكانت تجذرت وضربت أسفل جدار المنطقة، بل وبلغ توغلها التمكين المنشود لديها تاريخياً، واعتبرت المنطقة العربية جزءاً من التنظيم الدولي، ولا أبالغ إذا قلت لك، إن عقل الجماعة كان يفكر في ذلك، وهـم أنفسهم الذين قالوا جئنا لنحكم 500 عام.

ولك أن تتخيل هوية وملامح الحكم تحت جماعة إرهابية وظيفية. انتفض المصريون والعرب في لحظة الخطر. يقين كامل بأنه لا أحد ينجو منفرداً، اللحظة فارقة.. الخرائط أدركت حجم المخاطر التي تنتظرها.

ثورة «30 يونيو» لا تشبه ما نعرفه من ثورات في العالم القديم أو الحديث، فقد كانت أكبر جمعية عمومية عالمية، وصل عدد أعضائها أكثر من 35 مليون مواطن مصري.

إذا عدنا بالذاكرة، سنكتشف أن هذه الثورة انبثاق ذاتي ممتد من الحضارة القديمة إلى اللحظة الراهنة، وكانت صناعة مصرية. عندما تتجول في صفحات التاريخ، الثورة البريطانية والأمريكية والفرنسية، والثورة البلشفية، سنجدها جميعاً اندلعت بمخططات دولية.

وعلى نحو ما ظهر في ثورات الربيع الأسود 2011، فقد اندلعت بمخطط شامل، لا تزال آثاره إلى الآن، بينما 30 يونيو، صاغت أحداثها بنفسها، نابعة من هوية المصريين العميقة.

تدفقوا إلى الميادين دون اتفاق، والاتفاق الوحيد، هو استعادة الوطن من مخالب قراصنة الجماعات التي رعتها مراكز أبحاث غربية، وعلى رأسها المستشرق الأمريكي البريطاني «برنارد لويس» وجماعته.

والذي أراد انبعاث جماعة ميتة من التاريخ، وتسليمها السلطة، بهدف السيطرة على الإقليم العربي، انطلاقاً من مصر، لكن مصر خرجت لتمزق وثيقة برنارد لويس وأمثاله، وتكشف عن جوهر الحضارة، فقد جاءت مصر ثم جاء التاريخ.

يقول التاريخ دائماً، إن الثورات حين تندلع، لا تبقي من أثر الماضي أي شيء، ولا يمكن استعادته. وحسبما قرأنا في سجلات الثورات المشار إليها، نجدها غيّرت بنية المجتمعات، والهياكل المؤسسية للدول التي وقعت فيها، بما فيها أحداث الربيع العربي في المنطقة العربية.

لكن 30 يونيو استعادت عافية المجتمع المصري وحيويته، برغم أن المخططين كانوا أمسكوا بزمام الدولة الأمة، في مفارقة نادرة لم تحدث في تاريخ مصر، فالمعروف أن المصريين يندفعون إلى الثورات ضد الاستعمار. على سبيل المثال، كانوا في الميادين في ثورة القاهرة الأولى، وثورة القاهرة الثانية، في مواجهة نابليون بونابرت، والاستعمار الفرنسي.

وكانوا في الميادين بضراوة في ثورة 1919، ضد الاستعمار البريطاني، حتى إن غضب الطلاب في الجامعات، كان يخرج فقط من أجل أن نسارع في القتال وتحرير سيناء، وهو الذي جرى بالفعل في حرب أكتوبر 1973.

إن «30 يونيو» فريدة بين الثورات، حيث استعادت العمود الفقري لأمة النيل، وحفظت خرائط الإقليم من التمزق بفعل الجماعات الإرهابية، ولا تزال هي النموذج الذي يدعو إلى تأكيد الدولة الوطنية بمؤسساتها الحيوية، وترفض ثقافة الميليشيات والجماعات التي تنوب عن الدولة نفسها، أو تحاول فعل ذلك.

ورأينا في الأحداث الأخيرة التي تحيط بمصر من جميع الاتجاهات الاستراتيجية، كيف أن هذه الجماعات والميليشيات أسهمت في تدمير مجتمعاتها وبلادها، وتمزيق خرائطها، ولم تستطع حتى الآن أن تخرج من المستنقعات الظلامية.

إن الطريق إلى 30 يونيو كان شاقاً وعسيراً، ومحتشداً بالتنظيمات الإرهابية، والحواجز العابرة للحدود، فقد كانت الإرادة صلدة، وتشبه اللعبة الصفرية مع تنظيمات وأجهزة استخباراتية عابرة للقارات.

وقد دفعنا من الدم والدموع والعرق، وضحينا بشهداء ومصابين في حرب ضروس، حرب إرهابية، تكالبت علينا بها جميع المؤسسات التي كانت تريد اختطاف مصر، لأهداف أبعد من روح وهوية هذه الأمة، والآن نرى تجليات هذه الأخطار والجماعات في المحيطين، العربي والعالمي، ولولا الحكمة والبصر الحديد للمصريين، لكنا وقعنا في شرك لا يمكن الفكاك منه. إن الدرس المستفاد من هذه الثورة، هو:

أن المصير العربي مشترك، وأن أمننا القومي لا تصونه سوى الوحدة بكل معانيها، ولذا، هناك ضرورة للالتفاف حول دولنا الوطنية، والحفاظ على مقدراتها، وهوياتها وحضاراتها، وعدم الأمان للتنظيمات والجماعات الإرهابية، التي تواصل الطرق أسفل جدران أمتنا العربية.