المطلوب بناء السلام لا بناء المستوطنات

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال لقائه عددا من قيادات الجالية اليهودية الأميركية في مدينة نيويورك، يوم الإثنين الماضي، او عشية افتتاح الدورة السادسة والثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الرئيس محمود عباس إن على إسرائيل العمل من أجل بناء السلام لا بناء المستوطنات، وهو بذلك يجدد التأكيد على حقيقة أصبح العالم كله، بما فيه الولايات المتحدة، الحليف الإستراتيجي الأول لاسرائيل، وهي أن السلام والإستيطان لا يلتقيان، فالاستيطان لا يعرقل السلام فقط، بل انه يجعله أمرا مستحيلا، ذلك أن السلام يعني،أولا وقبل كل شيء، احترام حقوق الآخرين، ومن أول تلك الحقوق عدم الاستيلاء والسيطرة على أراضيهم وممتلكاتهم بالذرائع، ومن ثم زرعها بالمستوطنات وشق الطرق الالتفافية والأنفاق، وحرمان أصحابها الحقيقيين من استغلالها سواء في الزراعة أو البناء أو غير ذلك من المشاريع.

إن مسيرة السلام الفلسطينية – الإسرائيلية التي انطلقت عقب توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 برعاية الزعيم الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الراحل اسحق رابين، الذي اغتاله اسرائيلي يميني متطرف،هذه المسيرة، التي انطلقت قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، لم تصل بعد الى محطتها النهائية، التي كان مقررا لها، حيث كان من المفروض أن تؤدي الى سلام عادل وشامل، يطوي والى الأبد، صفحة الصراع والنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين المستمر منذ أكثر من ستة عقود، وبالتالي تكون منطلقا لتحقيق السلام بين اسرائيل والدول العربية ، ومن ثم فتح صفحة جديدة في هذه المنطقة الهامة والحساسة من العالم، عمادها التعاون والازدهار والتقدم.

ولعل السبب الأكبر في عرقلة مسيرة السلام هذه هو الاستيطان، وهو أمر رفضه العالم كله، بما فيه أيضا الولايات المتحدة، لأن ذلك مخالف لقرارات الشرعية الدولية التي ترفض الإعتراف بسياسة فرض الأمر الواقع، وكذلك رفض ضم أراضي الغير بالقوة. فالفلسطينيون قيادة وشعبا لن يقبلوا بأقل من قيام دولتهم الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة, ضمن حدود الخامس من حزيران عام 1967. وقد أكد الرئيس عباس أنه لن يوقع أي اتفاق مع اسرائيل، لا يعترف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.

إن المستوطنات مزقت الضفة الغربية، وجعلت قيام دولة فلسطينية مترابطة الأطراف أمر يكاد يكون مستحيلا أو شبه مستحيل، وحولت الضفة الغربية الى معازل "كانتونات" تمزقها الطرق الالتفافية والانفاق والحواجز العسكرية وبوابات العبور، بحيث أصبح من الصعب على المواطن الفلسطيني أن يتنقل بحرية وراحة داخل الضفة الغربية، كما أن اسرائيل عزلت القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني في الضفة، ومنعت أهل الضفة من الوصول الى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه، إلا في شهر رمضان المبارك، ولمن هو فوق سنّ معينة.

وقد أطلع الرئيس عباس قادة الجالية اليهودية في اللقاء، على استئناف المفاوضات مع الجانب الاسرائيلي في الثلاثين من شهر تموز الماضي، وأكد أن هذا الاستئناف إنما جاء ثمرة للجهود الحثيثة والبناءة. التي بذلها الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وقال الرئيس أبو مازن إن الولايات المتحدة شريك كامل في هذه المفاوضات، والواقع أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستطيع الضغط على اسرائيل، وإقناعها بالاستجابة لمبادرة السلام، واستغلال هذه الفرصة التاريخية السانحة، التي إذا ما أهدرت فإنها قد لا تعود مرة ثانية.

والسلام كماهو معلوم، ليس مصلحة فلسطينية فقط بل هو بالدرجة الأولى مصلحة اسرائيلية، وكذلك مصلحة اميركية، حيث أكد العديد من القادة العسكريين الأمريكيين، أن هذا السلام مصلحة أميركية بالدرجة الأولى، وذلك من أجل المحافظة على المصالح الأميركية في العالمين العربي والاسلامي، وفي ذات الوقت فإن هذا السلام مصلحة عالمية أيضا، خاصة في هذا الوقت الذي تعيش فيه الدول العربية حالة غير مسبوقة من القلق والاضطراب وعدم الإستقرار وعدم وضوح الرؤية، وذلك نتيجة ما بات يعرف بالربيع العربي، وقد كادت الأزمة السورية مؤخرا أن تؤدي الى صراع مدمر، قد لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط فقط، بل وقد يشمل العالم كله، ومن هنا جاء الإتفاق الأميركي – الروسي مؤخرا لاحتواء هذا الصراع المرير، الذي أوشك أن يدخل المنطقة في حرب قد تأكل الأخضر واليابس.

وأعلم الرئيس عباس، قادة الجالية الأميركية اليهودية، خلال الاجتماع ان المفاوضات سوف تعالج جميع قضايا الحل النهائي وهي "القدس والحدود والمستوطنات واللاجئين والأمن والأسرى، وهذه القضايا اتفق الرئيس عرفات ورئيس وزراء اسرائيل رابين أثناء مفاوضات أوسلو على تأجيلها، حين بحث قضايا الوضع النهائي. وهي مواضيع معقدة وشديدة الحساسية، ولكن يمكن التوصل الى حل لها، إذا صدقت النوايا، وإذا كان الهدف الأكبر والاستراتيجي هو تحقيق سلام شامل.

وقد قدم العرب في قمة بيروت مبادرة السلام العربية قبل أكثر من عشرة أعوام، وهي تعالج كافة قضايا الوضع النهائي هذه، بحيث تؤدي الى قيام سلام شامل بين الدول العربية وإسرائيل، وتطبيع تام للعلاقات بين العرب والإسرائيليين، وفتح سفارات اسرائيلية في العواصم العربية كافة، وهذا أقصى ما كانت تحلم به اسرائيل عند انشائها في عام 1948 وما زال العرب متمسكين بهذه المبادرة، ويؤكدون دوما أنها ما زالت على الطاولة، ولكن الحكومة الاسرائيلية الحالية ما زالت تماطل وترفض وتفضل سياسة الاستيطان على السلام، كما أنها ترفض الاعتراف بما توصلت اليه القيادة الفلسطينية مع الحكومة الاسرائيلية، السابقة برئاسة إيهود أولمرت، والتي قطعت شوطا كبيرا في تحقيق الكثير من التفاهمات لحل كثير من مسائل الوضع النهائي المعقدة.

وقد أكد الرئيس أبو مازن لقادة الجالية اليهودية الأميركية أن المهلة المخصصة للمفاوضات، التي استؤنفت مؤخرا تتراوح بين ستة إلى تسعة أشهر، والمؤسف أن المفاوضات حتى الآن لم تحقق أي اختراق أو أية انفراجة، وذلك جراء تمسك نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي بضغط من وزراء اليمين المتطرف في حكومته، بسياساته التوسعية الاستيطانية.

وقد أشار الرئيس خلال الاجتماع الى أنه إذا انسحبت اسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 فإن سبعة وخمسين دولة عربية واسلامية ستعيد علاقاتها وتعاملها مع اسرائيل، وهذا ما كانت تحلم به اسرائيل، كما قلنا لدى انشائها عام 1948، ولذا عليها ألا تهدر هذه الفرصة التاريخية.

وقد أشار الرئيس عباس الى أن لدينا فرصة حقيقية لتحقيق السلام الدائم والعادل والشامل، ويمكننا تحقيق ذلك دون أخطاء، وخاطب الرئيس أعضاء الجالية اليهودية قائلا لهم " نحن بحاجة لدعمكم من أجل ضمان نهاية ناجحة لمحادثات السلام، حتى تستطيع دولة فلسطين أن تعيش جنبا الى جنب مع دولة اسرائيل في أمن وسلام في حدود العام 1967، كما حث الرئيس حكومة اسرائيل على بناء السلام وليس بناء المستوطنات". والواقع أن للجالية اليهودية تأثيرا كبيرا لدى القادة الأميركيين ولدى إدارة أوباما، كما أن لهم كلمة مسموعة في أوساط القادة الإسرائيليين، ومن هنا جاء حرص الرئيس عباس عن الإلتقاء بهم ووضعهم في الصورة الحقيقية للوضع غير المستقر في المنطقة، ودعوتهم إلى بذل جهودهم لدى الحكومة الاسرائيلية والادارة الأميركية من أجل وصول هذه المفاوضات الى نتيجة مبشرة بسلام عادل وشامل.

والرئيس عباس رجل سلام من الطراز الأول، وهو صادق كل الصدق في توجهه لتحقيق هذا السلام، وهو ينبذ العنف بكل أشكاله وصوره، وهو يعمل من أجل بناء مستقبل واعد للأجيال القادمة، وقد أكد ذلك حين قال في ذلك الاجتماع " لقد حان الوقت لتحقيق السلام في الأراضي المقدسة"، وأضاف قائلا " هذا هو الوقت المناسب لليهود والمسيحيين والمسلمين، لإظهار أوجه الشبه وعظمة هذه الديانات الثلاث، وقد حان الوقت لاستبدال الكراهية والصراع وسفك الدماء والتحريض، بالتعاون". فهل تستجيب الحكومة الاسرائيلية لهذه الدعوة الصادقة لتحقيق السلام؟ نأمل ذلك، والله الموفق.
 

Email