إمبراطورية الطعام والقطط

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعرف المدينة وأحبها من خلال أحيائها البعيدة، التي لا تمت بصلة لوسطها المزدحم، ومراكزها التجارية الضخمة، وخليط البشر الذين يأتون من كل الدنيا ليتفرجوا على كل شيء ثم يذهبون كما جاءوا. إن المدن الكبيرة والقديمة لا تقرأ من وسطها، ولكن من بداياتها حتى النهايات، من أحياء أهلها الذين يسكنون بعيداً عن الضجيج، فيطفئون أضواء بيوتهم وينامون باكراً، ليذهبوا إلى أعمالهم في الصباح الباكر متدثرين بمعاطف الشتاء، يقطعون الشوارع والطرقات صامتين، حاملين حافظات أوراقهم ومظلاتهم وبعض أحلامهم.

يعود هؤلاء الناس (فقراؤهم وأغنياؤهم) في آخر النهار إلى منازلهم، وفي مساءات آخر الأسبوع يبحثون عن مقاهٍ منزوية، أو مطاعم صغيرة، يقضون فيها أوقاتاً بصحبة أصدقائهم، فيعبق المكان بالضحك ودخان السجائر ورائحة القهوة، بينما تتسكع القطط في كل مكان، ففي الأحياء البعيدة يحب الناس الألفة، ألفة البشر والحيوان معاً، لذلك لم أستغرب كثرة القطط في أحياء إسطنبول، بدا لي كعلامة فارقة على أخلاق الناس، ورحمتهم، فـ 30 % من الأتراك يربون القطط، أي أن ما يعادل 20 مليون قطة تشارك الأتراك منازلهم.

وتعرف المدن من طرقاتها وشوارعها الخلفية الضيقة التي يتسكع فيها الشحاذون والصبية وبعض سيارات الأجرة التي تبحث عن زبائن الصدفة، بينما تظل أضواء حوانيتها الصغيرة مضاءة طوال الليل ليتاح للمتسكعين أن يتوقفوا أمام واجهاتها فيتلصصون على محتوياتها، ويعدون أنفسهم بالعودة إليها في الغد بينما هم يثرثرون حول ما يرون ثم يمضون.

وأحب المدن التي تستقبلني بالمطر في أول مساء تظللني فيها سماؤها، وفي الغد تفاجئني شمسها ويفرحني دفؤها، فأحمل مظلتي على سبيل الاحتياط وأخرج مستمتعة بطقس لا يوصف، وأحب المدن التي تقدم كل شيء للقادمين بكرم وبذخ، المتاحف والمسارح ودور الموسيقى والطعام الجيد وعازفي الأرصفة، ومحلات القهوة والشاي المنتشرة في كل مكان، والعربات التي ينتشر دخانها معلناً عن تلك الأطعمة المرتبطة بالشتاء: الذرة المشوية والكستناء اللذيذة، ومدينة إسطنبول مثال جميل على هذا النوع من المدن.

 

Email