الرائحة في حضرة الغياب!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقال إنّ الذكريات تكون أقوى وأكثر وضوحاً في الذهن عندما تقترن بالرائحة، فالروائح على اختلاف مصدرها تشكل محفزاً قوياً للذاكرة، ولهذا نجد من أكثر الأوصاف التي يرددها الناس قولهم (هذه الرائحة تعيدني للماضي / أو لهذا المكان رائحة الماضي) وذلك عند شم رائحة بعينها لعطر أو طعام أو بيت قديم مثلاً. تعيدنا الرائحة إلى لحظة زمنية كاملة بشخوصها وأصواتها وتلك الرائحة القادحة للذهن، فنستعيد صورتنا وأصواتنا وأصدقاءنا في طفولتنا وشبابنا.

لكل زمن في الذاكرة ذاكرته الخاصة وكذلك للأمكنة، هذه الرائحة ترتبط بما كان سائداً فيهما من روائح الأطعمة والعطور والأدوية والمشروبات وغيرها. إن رائحة مشروب الزعتر في أيام الشتاء مثلاً تعيدني مباشرة لتلك الصباحات الباردة ومساءات الشتاء التي كانت جدتي تحضر فيها إبريق الزعتر المغلي على جمر الموقد لجدي، فيعبق البيت كله بالرائحة.

لذلك يقال إن الرائحة هي البصمة الوراثية للأشخاص والأمكنة، ومن خلالها يمكن أن نستعيد ليس الأيام التي تلاشت والأزمنة والأمكنة التي اندثرت، بل إنها قد تعيد إلى أرواحنا حضور أحبة يعيدون نبض الحياة في العروق!

عندما كنا أطفالاً، أتذكر تعلق أخي الذي يصغرني مباشرة بجدتي، وكيف كان يتحرك في ظلها طيلة النهار لا يكاد يفارقها لحظة، ولأمر طارئ سافرت جدتي، وعندما استيقظ صباحاً لم يجدها، فصار يبكي طيلة الوقت ويناديها، وحارت والدتي في كيفية صرف انتباهه عن التفكير في جدتي، لقد حاولت كثيراً لكنها فشلت، ثم فقد أخي رغبته في الطعام، وصار يذوي يوماً إثر آخر، وأصبح لا يقوى على النهوض، وسط قلق الجميع، حتى كان ذلك الصباح الذي زارتنا فيه إحدى الجارات ورأت ما ألمَّ بأخي، فطلبت من والدتي شيئاً من ثياب جدتي (قالت أريد ثوباً لا يكون مغسولاً) فجاءتها والدتي بالثوب، ألقته الجارة قرب وجه أخي وهو نائم، فإذا به يتململ في فراشه ويفتح عينيه وهو يتشمم الرائحة وينادي جدتي ظناً منه أنها عادت، أحضروا له طعاماً فأكله، بينما كان يحتضن الثوب غارقاً في الرائحة وسعيداً كأنه غارق في حضن جدته.

Email