حافلة.. كالحياة تماماً!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما كان حلماً، أو حكاية سمعتها أو قرأتها منذ زمن، تقول الحكاية:

في طريق طويل، سارت ثلاث فتيات شابات، يظهرن كأنهن يمشين في مدينة منسية بلا ملامح، تصلح أن تكون أي مدينة في أي مكان، يبدو المشهد كأنه ينتمي لأفلام الستينيات، تسير اثنتان متقدمتان ببضع خطوات، متقاربتان وتتهامسان بأمر، حرصتا على ألا تسمعه رفيقتهما الثالثة، لم تكن الفتاتان تحملان شيئاً، بينما الثالثة تسير بخطى أبطأ، لأنها تحمل حقيبة في كل يد، وجوه الفتاتين لا تظهر بوضوح، ووجه الثالثة يبدو جلياً، بقسمات أنثوية بريئة، أقرب للسذاجة، كانت متعبة وقلقة من شيء يسيطر على تفكيرها.

ظهرت حافلة هائلة متوقفة على جانب الطريق، فتح السائق الباب، فولجت الفتاتان بخفة، واختفتا بداخلها، دون أن تلتفتا إلى رفيقتهما، بينما كانت هي تنظر بخوف وحيرة، محدثة نفسها أنها لا يمكنها ركوب الحافلة وهي تحمل هذه الأثقال، وتذكرت الفكرة التي كانت تقلقها، فتدحرجت دمعتان على خديها، وقررت أن تعود من حيث أتت...

تذكرت أعداد الناس الذين يمرون في حياة كل منا، وعند أول محطة يشيحون بوجوههم ويمضون، ينسون من قطعوا معهم الطريق، ينسون الوعود والأحاديث والأحلام، ينسون كل شيء، ولا يتذكرون سوى أنفسهم، وكأنك لم تكن معهم، لم تقف إلى جانبهم، لم تجمعك بهم أيام وأسفار و(عيش وملح وذكريات).. فتتساءل: كيف ينسى الناس كل شيء هكذا ببساطة؟ كيف يطفئون قلوبهم كأنوار الشارع؟ هل كانوا هكذا طوال الوقت، وأنت الذي لم تكن تراهم جيداً؟ أم أن الزمن يغير كل شيء، فلا يبقي ولا يذر؟ وينحت الذاكرة كما ينحت الصخور ويعريها؟.

قليلون هم الأصدقاء الذين يمدون أيديهم لبعضهم البعض اليوم، بعد أن صار الوفاء من نوادر القدماء، لكن لو خليت خربت، كما يقولون، كسائق الحافلة الذي لمعت عيناه بإنسانية طاغية، فنزل وأخذ الحقائب من يد الفتاة، ومنحها يده لتتمكن من ركوب الحافلة، أغلق الباب بعده، ومضى بالجميع.. كالحياة تماماً!

Email