في كتاب قديم بعنوان «الجوع» (ليس رواية الجوع لكنوت هامسون)، وهو كتاب معرفي يبحث في جدليات الوفرة والجوع والفقر والغنى، ودور المنظمات الدولية في صناعة الفقر وصناعة الجوع، هناك عبارة ما زالت ذاكرتي تحتفظ بها، تقول إن العضو الذي لا نستخدمه يضمر بمرور الزمن، وإن لجوء النساء للرضاعة الصناعية والامتناع عن إرضاع أطفالهن يمكن أن يقودهن إلى ضمور صدورهن.

أتذكر هذه العبارة كلما راقبت أطفالاً صغاراً لا يتركون الهواتف الذكية ولو لدقيقة واحدة، فإذا كانوا معك في أي مكان: في المنزل، السيارة، الطائرة، القطار، المطعم.. لا تشعر أن أحداً يجلس بالقرب منك، وإذا نظرت إليه، أو ناديته فلا يسمعك ولا يلتفت صوبك، وإذا سألته لا يكلف نفسه عناء استيعاب السؤال، بقدر ما يتبرم ويدير وجهه صوب هاتفه، وهذا هو منتهى الأرب لمن سأل عن معنى قلة الأدب عند صغار اليوم، الذين لكثرة توحدهم مع أجهزتهم الذكية فقدوا ذكاءهم الاجتماعي وجزءاً كبيراً من ذكائهم الفطري.

فإذا كان هؤلاء الصغار لا يتحدثون مع أحد طوال الوقت، لا يسألون، ولا يتواصلون بشكل طبيعي وتلقائي؛ أي أنهم لا يعيشون حياة تفاعلية أو بشرية طبيعية؛ لأن الأجهزة توفر لهم كل ما يحتاجونه من دون أن يحركوا ألسنتهم، فهي التي تعلمهم، توفر لهم التسلية والألعاب ومنصات التواصل الافتراضي، والطلبات… إلخ، إذن هل سيكون غريباً إذا ضمر ذكاء هؤلاء الصغار، وأصبح استيعابهم بطيئاً مع مرور الوقت؟

عندما كنا صغاراً حفظنا جداول الضرب، وقواعد النحو، ومع بزوغ فجر الذكاء الاصطناعي وأفول شمس الذكاء البشري صرنا لا نحفظ حاصل ضرب أي رقمين، بل ونتلعثم إذا طلب منا أي موظف رقم هاتفنا أو رقم هاتف العمل، فالأرقام محفوظة في ذاكرة الهاتف، أما ذاكرتنا فيعبث بها النسيان، وبمرور الوقت سنكتشف أننا في غير حاجة لها، طالما هناك بديل جاهز ومتوفر دائماً!