للمكان ذاكرة حاضرة، صنعتها روائح متداخلة، خزنت في داخلنا منذ عرفنا معنى الرائحة، وكيف نميز بين واحدة وأخرى. كما صنعتها الأصوات والصور والألوان: ألوان ثيابنا في الطفولة، ألوان البحر والطيور، ثياب جدتي، جدران البيوت والأبواب، ولهذا كله تنغرس الأمكنة فينا ولا تتلاشى، وهذا ما يجعلها قادرة على أن تعيدنا لنفسها في غمضة عين، فنعود برهافة جناح فراشة، إلى فناء مدرستنا القديمة، وللبيت القديم، والحارات والأحياء القديمة.
وكذاكرة الأمكنة، فإن للأغنيات ذاكرة ترتبط بأيام المراهقة والمدرسة والشباب والحب والشغف، هذا ما شعر به جيل كامل، حزن كثيراً لوفاة الفنان الكبير عبد الكريم عبد القادر، لأن أغنياته شكلت على الدوام الحافظة والأرشيف والمرجع لحياة جميلة عاشوها بصحبة أغنياته.
في لقاء إذاعي، قال الملك تشارلز الثالث: هذه الأغنية تمنحني رغبة لا تقاوم في الرقص، متذكراً مجموعة من الأسماء الفنية، ومغنين أو مغنيات أو فرق موسيقية، ومن أشهر هؤلاء، المغنية الفرنسية (اديث بياف)، والأمريكية ديانا روس.
هذه الاستعادة التي قدمها الملك تشارلز، شكلت لدى كثيرين حالة من النوستالجيا، أو الحنين لتلك الأيام التي كانوا فيها شباباً، وكانت لديهم أو لديهن تفضيلات خاصة في ما يخص المغنين أو الأغنيات التي شكلت ذائقة جيل كامل، كما في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، الذين كانت أغنيات مايكل جاكسون فناً نمت عليه مراهقتهم، وامتزجت بتقلبات مراهقتهم وشبابهم، تماماً كما لعبت أسماء عملاقة، مثل أسمهان وأم كلثوم وعبد الحليم ووردة وفيروز، الدور نفسه في مراهقتنا وشبابنا!
لكل واحد من هؤلاء الكبار، أغنيات ارتبطت في ذاكرة كل شاب وشابة في تلك الأيام، بحدث ما أو شخص ما، أو بحالة محددة من الفرح أو الحب، كأغنية عبد الحليم التي يتم استعادتها كل عام، عند الإعلان عن نتائج امتحانات الثانوية في معظم البلدان العربية، أغنية نسمعها البارحة، فنتذكر عندما عشنا لحظات القلق والتوتر، بانتظار سماع أسمائنا على لسان مذيع التلفزيون، الذي نبقى معلقين بشفتيه، حتى نسمع اسمنا، فنتقافز مرددين أغنية حليم (الناجح يرفع إيده)!