مرارة التجربة

كيف يستطيع أحدنا أن يصوغ كلاماً يشبه الفولاذ، شديد الوقع ونافذ المعنى كنصل؟ كيف يمكن بعد صياغته أن نقنع به الآخرين الذين سيقرؤونه ويسمعونه؟ سنحتاج إلى الكثير لنصل إلى هذا المستوى، أن نقول كلاماً عميقاً ومقنعاً ولا يجادل، وما لم ندخل في الكثير من التجارب الصعبة ونتلقى الكثير من الصدمات، وما لم نبكِ ونشعر بحرقة الألم وفظاعته، وما لم يترك هذا الوجع ندوباً في أرواحنا وأجسادنا، فإننا لن نتعلم ولن نصل إلى الحقيقة!

إن النصائح التي نتبرع بإسدائها لأبنائنا أو أصدقائنا هي بلا شك خلاصة تجارب أو معارف خضنا الكثير كي نحصل عليها، وحين نقدمها جاهزة لمن نحب فإنما نحاول أن نجنبهم ذاك العبور الصعب في أرض التجربة، لقد ذقنا الألم وعرفنا نتيجته، ذهبنا إلى أرض الهلاك ولم نكن نظن أننا سنرجع، لكننا إذ عدنا برحمة الله صغنا خلاصة التجربة وقدمناها لمن نحبهم ونحرص عليهم.

صحيح أن كلام النصيحة بارد وقاسٍ يشبه الفولاذ، شديد الوقع على النفس كما وقع النصال، لكنه بالتأكيد أقل قسوة من الدخول في التجربة، إلا أن الجميع لا يأخذون بالنصيحة، يصرون على عبور التجربة ذاتها، ليعيشوا الألم نفسه والحرقة نفسها، وكأننا لا نتعلم إلا من تجربتنا ولا نقتنع إلا إذا تألمنا!

لكن الحياة معلم قاسٍ جداً، وحكيم وعادل كذلك، لا تعلمنا دروسها مجاناً، هل تذكر: كم مرة قلت وكررت بل ورجوت صديقك أو ابنك أن لا يدخن؟! كم مرة أمسك بعلبة التبغ وسخر من التحذيرات المخيفة المدونة عليها؟! كم مرة أعرض عن نصائح المقلعين عن التدخين؟! والنتيجة كأنك لم تقل شيئاً، يمر الكلام على الآذان فما ينفع وما يضر، حتى تأتي تلك اللحظة القاسية، لحظة الوقوع في الثقب الأسود، في الأزمة القاتلة التي تجعل الطبيب يقول آمراً لا ناصحاً: ممنوع التدخين من الآن وصاعداً!

وحدها مرارة التجربة وبشاعة الألم من يخيفنا ويردعنا، ويرينا حجم الحقيقة، لذلك نتعلم بالتجربة لا بالنصائح غالباً!

الأكثر مشاركة