نشر الكاتب والطبيب وأستاذ علم النفس الفرنسي جوستاف لوبون كتاب (سيكولوجية الجماهير) عام 1895، ومنذ ذلك العام والعالم أجمع لا يزال يقرأ هذا الكتاب ويعيد ترجمته وطباعته ونشره بمعظم اللغات، لماذا؟ وما سر هذا الكتاب؟ إنه السر نفسه الذي يجعل العالم يعيد ترجمة وقراءة الروايات الأولى في المدونة السردية الإنسانية مثل: «ألف ليلة وليلة» و«دون كيشوت» و«الديكاميرون» الرواية التي حاك الروائي الإيطالي جيوفاني بوكاشيو أحداثها في القرن الـ16 على غرار ألف ليلة وليلة.

إن السر في صمود هذه الأعمال وغيرها، يكمن في قدرة مؤلفيها على الاستشراف والتنبؤ بما سيكون عليه الإنسان في المستقبل، ويكمن السر في التعبير الدقيق عن الجذور الغائرة في طبيعة النفس البشرية بكل غرائزها ونبلها وشرورها، كما يكمن في التطرق للقضايا والأسئلة التي توحد بهمومها وأهميتها معظم البشر في كل زمان ومكان والتي لا بد من أن تخطر في ذهن كل إنسان لأنها تمس طبيعته وأحلامه ومخاوفه وغرائزه واحتياجاته!

أمر آخر مهم يفسر استمرارية نجاح مثل هذه الكتب رغم تبدل الأحوال والظروف وتطور المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، وهو أن هذه الكتب جميعها كتبت ووجهت للقارئ بلغة وأسلوب مباشر والتطرق لقضايا جوهرية ووجودية وبعبارات تتساوى فيها العاطفة والعقل معاً، كالدعوة للتفكير والنقد جنباً إلى جنب مع الحض على المحافظة والالتزام بالتقاليد، إن أحد الموضوعات الرئيسة في كتاب «جوستاف لوبون» هو تأكيده أهمية المحافظة على الهوية الثقافية وعلى تقاليد الجماعة، ولذلك فهو يقاوم التغيير المفاجئ ويرى فيه تهديداً مباشراً لأن هذه التقاليد ما وجدت إلا لتحقق مصالحه وتحميه.

المؤكد هو أن تمسك الجموع بتقاليدها وهويتها يمنحها إحساساً بالاستمرارية والاستقرار في مواجهة التغيير، والتميز وسط جماعات ثقافية متعددة ومتباينة، ثم إن هذه الجموع تتشكل وترتبط تاريخياً من خلال شعورها المشترك بهوية واحدة وانتماء محدد وثابت، تحافظ على بقائه واستمراره عبر الأجيال لأن ذلك يجعلها تتجذر أكثر في التراث الثقافي الإنساني العام، شريطة ألا تتحول هذه العادات إلى قيد يحول بينها وبين التطور نحو الأفضل.