في ذكرى وفاة جدتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت في الصف الخامس الابتدائي يوم امتلكت أول كتاب في حياتي، قبله قرأت قصصاً صغيرة من مكتبة الفصل، كنت سريعاً ما أعيدها لأتمكن من أخذ غيرها، بدأت علاقتي بذلك الكتاب عبر غيرة طفولية، حين لمحته بين يدي زميلة لي في الفصل رفضت أن تعيرني إيّاه لأقرأه، وكطفلة في العاشرة من عمري لم أفكر في أي شيء آخر سوى أن أمتلك كتاباً مثله، وقد كان.

بعد محاولات إلحاح واستعطاف مارستها على جدتي التي كنت أعيش عندها في تلك السنوات، أخذتني عصر أحد الأيام إلى مكتبة اسمها (دار الحكمة)، بعد سنوات من ذلك الموقف سأعرف أن هذا الاسم يعود لواحدة من أعظم المكتبات في تاريخ الحضارة الإسلامية.

دخلت المكتبة التي كانت تقع بجوار البنك البريطاني في ميدان جمال عبدالناصر بدبي، وهناك كنت كأليس في بلاد العجائب حين شاهدت كميات الكتب ورفوفها التي تصل إلى السقف، بينما يتسلق الموظف سلماً خشبياً ليتناولها.

كانت جدتي شابة صغيرة يومها، وقد فاصلت البائع طويلاً لتحظى بالكتاب بالسعر الذي يناسبها وقد حصلت عليه بالفعل، فخرجت يومها من المكتبة بوعي جديد عن مفهوم السعادة، فالسعادة هي أن تمتلك كتابك الخاص لأول مرة في حياتك، كان صغيراً جداً، ويحمل صورة السيدة ماري كوري مكتشفة الراديوم وحائزة نوبل في الفيزياء والكيمياء.

يومها لم أفهم معنى نوبل ولا فيزياء ولا كيمياء، ولم أستطع نطق كلمة الراديوم جيداً إلا بعد سنوات طويلة، لكنني كنت على يقين بأنني أمتلك كتاباً، سأظل أتذكر صورة صاحبته التي على الغلاف، والتي سأعرف لاحقاً بأنها الصورة الوحيدة لها ربما.

لقد بقي الكتاب، كما بقيت عبقرية ماري كوري التي شكلت شكل الغلاف وموضوع الكتاب، كما بقيت جدتي حتى اليوم تلك الشابة الفتية التي لم تتردد في اصطحاب حفيدتها لمكتبة لا تعرف مكانها، لكنها ذهبت وجادلت بائع الكتب فيها، من أكثر العلامات التي تركت بصماتها في مسيرة حياتي حتى هذا اليوم الذي يصادف ذكرى وفاة جدتي رحمها الله.

Email