البيت الأول

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألا زلتم تتذكرون منازل الطفولة؟ نعم المنزل الأول الذي تفتحت فيه أعينكم، عندما لامس هواء الغرفة التي ولدتم فيها أجسادكم الصغيرة المرتجفة والزلقة، ذلك البيت الذي تفتحت فيه لاحقاً طفولتكم، وعرفتم فيه معنى البيت، والوالدين والأخوة، واللعب مع الرفاق، واجتماع العائلة ثلاث مرات في اليوم، خلال وجبات الطعام، ذلك التجمع الحميم، الذي حرم منه أطفال اليوم، الذين إما أن يأكلوا وقوفاً وإما وهم يمشون في أرجاء البيت، أو في مطاعم الوجبات السريعة، البيت الأول الذي نَحِنُ إليه، والذي سيظل حبلنا السري، الذي لن ينقطع مع طفولتنا وأسرارنا الأولى، وشقاواتنا المكتومة.

يقول أبو الطيب المتنبي في تلك المنازل بيتاً من عيون الشعر:

لك يا منازل في القلوب منازل

أقفرت أنت وهن منك أواهلُ

أي منزلة في القلب يحتلها المنزل الأول، الذي سنتنقل بعد أن نغادره إلى منازل كثيرة في أنحاء البلاد، لكن الحنين سيظل دوماً يأخذ بقلوبنا وأيدينا ليقودنا إليه، فنظل نتلفت بأعيننا، ونشير بأيدينا، حتى يخيل لنا أننا نسمع أصواتنا وأصواتهم، ضجيجاً ولعباً وكلاماً مختلطاً لرجال ونساء، وأطفال لهم في القلب منازل، لا يعلمها إلا الله، وإن غادروا وإن رحلوا.

لم يخلد الحنين والوفاء للبيت الأول في شعر أبي الطيب المتنبي فقط، فها هو أبو تمام يبدع إذ يقول:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

أنَحِنُ للبيت أم لمن يسكنوه، وهل يكون البيت بيتاً إلا إن سكن، لماذا إذن نَحِنُ للبيت الأول، لأنه شكل على الدوام أبجدية المعرفة الأولى، والانفتاح الأول على كل شيء، على العلاقات، والطفولة، والأسرار والصداقات الغضة، والحرية والانطلاق واللامسؤولية، وحب الوالدين الصافي، وحب الأقارب الحقيقي، لأنه فيما بعد أصاب التغيير كل شيء في البيوت اللاحقة، التي سكناها بعدما كبرنا، وكبر كل شيء حولنا وتغير.

 

Email