لا أظن أن صغار اليوم يمتلكون ذاكرة شبيهة بتلك التي امتلكناها، فذاكرتنا ممتلئة بالأحداث والأسماء والرموز والأفكار والفلسفات الكبيرة، بالرغم من قلة ما كان متاحاً لنا من مصادر المعرفة، والأسباب مفهومة بمنطق الواقع في تلك السنوات، التي امتلأت فيها أسماعنا وأذهاننا بالكثير من التوصيفات والمقارنات التي تضع الأمة العربية دائماً في خانة التمزق والتخلف والتبعية.
لا خوف من ذاكرة أجيال اليوم، لأن ذاكرتهم وإن لم تمتلئ كذاكرتنا بالنظريات والأحداث وقصائد الفخر بالأيام والأحداث والرموز، إلا أنها تخلصت من ذلك الشعور المقيت بالدونية تجاه الآخر، الذي كان حريصاً على جعل هذا الشعور قريباً ومتاحاً، وفي متناول الأيدي؛ في الأخبار والأفلام والمسلسلات.
إن الذاكرة يمكنها أن تكون مخيفة، حتى وهي عميقة، كما يمكنها أن تكون كذلك وهي فارغة وأفقية بلا أبعاد ولا طموحات. لقد مرَّ صغار اليوم بالكثير من التجارب، وشهدوا العديد من التقلبات والأحداث منذ بداية الألفية، كما شهدوا ثورة عارمة من ثورات المعرفة والتقنية ووسائل الاتصال والتواصل، وهي الثورة التي غيّرت شكل المجتمعات والعلاقات، ورسمت طبيعة الاقتصاد والحياة قي المستقبل.
الذاكرة عبارة عن مخزن يحفظ كل وثائق الماضي بكل أحداثه، حلوها ومرها، هذا المخزن قد ينفجر يوماً ويفجر صاحبه، وقد ينفتح على طموحات ترفع من سقف توقعات صاحبها، وتمنحه أجنحة من أحلام يؤسسها من واقعه الجميل. المهم أن يكون واقع اليوم الماثل أمام الأجيال، الذي يكون ذاكرة للغد، واقعاً يدعو للفخر والعمل لليوم والمستقبل من دون أي شعور بالدونية أو الانكسار والهزيمة.
لا يعقل أن تكون ذاكرة الشباب العربي، الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة الثانوية أو الجامعية، والذين عايشوا العديد من الأحداث التي بدأت بحلول الألفية الثالثة، ذاكرة خالية أو غير عابئة بما شاهدته وعايشته وتأثرت به. نعرف أنهم أجيال لم تسقط في عبادة الماضي، والرغبة في الحياة في ذلك التاريخ، لكن الأهم أن يفهموه في مفاصل النقد، ويعتزوا به في مواطن الاعتزاز، لكن من دون التورط في شوفينية الذاكرة أو مبالغات الموضوعية.