«روائح المدينة»!

ت + ت - الحجم الطبيعي

الناس في كل زمان ومكان يسعون للتشابه، أكثر مما يسعون للمخالفة، وهو أمر يتسق مع طبيعة البشر، الذين يؤثرون ويتأثرون بكل ما ومن حولهم، وما يتماس معهم، من هنا يبدو طبيعياً أن يشبه الناس آباءهم وأصدقاءهم ومدنهم، التي يعيشون ويتحركون فيها باستمرار، فنلاحظ انتقال طباع المدينة «مستوى رقيها ونظافتها وزحامها وتبادلاتها الأخلاقية فيها» إلى قاطنيها، فيصبح الإنسان في نهاية المطاف صورة عن مدينته شاء أو أبى، تلك قاعدة تفرض نفسها في العلاقة بين المدينة وساكنيها، فإذا فسدت فسد سكانها، والعكس صحيح.

قرأت منذ سنوات رواية بديعة لكاتب تونسي هو د. حسين الواد، عنوانها «روائح المدينة»، يتتبع فيها الكاتب روائح مدينته تونس، من خلال التحولات التي دخلت عليها، وأفقدتها روحها الحقيقية، جاعلة منها مدينة مفرغة بلا روح، وبروائح تزكم الأنوف ولا تطاق.

هذه الروائح تشير إلى استشراء الفساد، وقدرته على صناعة رأي عام موالٍ ومشجع له، الأمر الذي كرس الفساد والتخلف والانسحاق والظلم، والذي ألحق الكثير من الخراب بالحياة اليومية للناس والمدينة معاً، من خلال تسلط إحدى العائلات الفاسدة على كل شيء!

تحيلنا هذه المدن التي تئن تحت وطأة الفساد إلى صرخة جورج لويد، الذي صرخ تحت وطأة رجل الشرطة: أنا أختنق، لا أستطيع التنفس! فهب الناس، وخرجت المظاهرات المؤيدة له صارخة: كلنا جورج لويد، وتحولت عبارته تلك إلى صرخة وحركة إنقاذ على مستوى المجتمعات والتاريخ، لتصب كجهد مضاف في خانة التصدي للفساد.

فإذا جازت المقارنة يمكننا أن نسأل في المقابل عمن يقع عليه مسؤولية وجهد إنقاذ «مدينة حسين الواد الفاسدة»، من ينقذ المدن، التي تئن تحت وطأة النفايات، وتدني مستوى الخدمات، وعلى كعب الفساد والمآزق الاقتصادية والحروب والفقر والـ… هل هي الحكومة أم أبناء المدينة ؟

حسين الواد في «روائح المدينة» راهن على وعي الناس كطريق للخلاص والإنقاذ، لأن السلطة كما قال لن تفعل سوى الزج أكثر بالمدينة في مظاهر حضارية شكلية هشة جداً، لتضع المدينة أمام أقبح احتمالات التردي.

Email