مدن الديستوبيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الأدب الذي يتبنى الاتجاه السوداوي في وصف العالم، يعتقد أدباء هذا الاتجاه أن مدن المستقبل ستكون مدناً ديستوبية خربة وفاسدة بامتياز، وبلا شك فإن الروائي الإنجليزي جورج أورويل هو أشهر من حدد ورسم ملامح ومميزات المدينة الديستوبية في روايته (1984) التي كتبها في العام 1948 وتنبأ فيها بسيادة شكل خطير من أشكال المدن، والأنظمة السياسية الحاكمة التي تمارس ديكتاتوريتها على الناس عبر مراقبتهم ليل نهار في منازلهم وأماكن عملهم كما في الشارع ليلاً.

لقد أبدع أورويل في اختراع هذه المدينة بكل ملامحها ووصف تلك المدن المليئة بالفساد والأمراض، فساد الإنسان والبيئة والمناخ وضمائر الناس وأنظمة الحكم ومؤسسات الدولة، وانحراف مهامها ووظائفها بحيث تكون في نهاية الأمر لصالح الأخ الأكبر.

عندما نشرت رواية 1984، حاول كثيرون تأويل أحداثها على أساس أن المقصود بها نظام ستالين القمعي في روسيا، والحقيقة أن الأمر أبعد من مجرد أشكال ديكتاتوريات سياسية، الأمر الخطير أن الديستوبيا انتقلت من شكل مديني فاسد، إلى توجه يخص الشكل والجوهر معاً، فالمدينة العالقة تحت عجلات الفساد والتلوث والقذارات، المدينة الملوثة بالنفايات والروائح الفاسدة، والتي تنتشر فيها الأمراض الأخلاقية وينعدم الرشاد السياسي، ولا يعود لأحد الحق في أن يعيش هادئاً أو مرتاحاً متحرراً من رقابة البوليس السري ومضايقاته، آمناً في تنقلاته وأحاديثه، تلك هي مدينة الديستوبيا التي كتب عنها الكاتب الأردني إبراهيم نصر الله في روايته (حرب الكلب الثانية)، وجورج أورويل في 1984، وأحمد مراد في معظم أعماله وغيرهم من الأدباء.

فإذا كان الحكم السياسي قد قمع حريات الناس وتحكم في انتماءاتهم وأحاديثهم واهتماماتهم وزيجاتهم وحياتهم العاطفية، فإن ظاهر المدينة المليئة بالقذارات وانعدام القانون والنظام والنظافة والخدمات المحترمة يمكنه أن يقمعك أكثر ويقهرك أكثر حين يحرمك من الحياة في ظل فضاء عام حر وآمن يمارس فيه الإنسان حياته بهدوء وسعادة.

لذلك أصبحت مدن الديستوبيا أقرب مما نتصور وليست مجرد نبوءات وهواجس بسبب الحروب والأمراض والثورات والاضطرابات الاقتصادية وفساد أنظمة الحكم حول العالم.

Email