إسطنبول

ت + ت - الحجم الطبيعي

زرت إسطنبول للمرة الأولى في الخريف، كان الطقس بديعاً جداً، لكنني لا أحب المدن المفتوحة على البحار، فهي غالباً ما تتعرض لعواصف ورياح تبعثر مزاج الإنسان تماماً كما تبعثر الريح أوراق شجرة يابسة، فيمتلئ الوقت بالكآبة والملل، ثم زرتها في الشتاء، فكان شتاؤها قاسياً لا يحتمل، وكانت رياح البوسفور تحول الأرض إلى صقيع يجمد الأقدام، إلا أنني أحببتها بالرغم من كل ذلك، تذكرني بروما (فهي جزء من التاريخ البيزنطي في النهاية) وبالقاهرة القديمة، إلا أن لكل مدينة وجهها ومزاجها.

أحببت المدينة أكثر حين زرتها رفقة صديقاتي، ففي معية الأصحاب يتغير حتى مزاج المدينة، وتبدأ في النظر للأشياء من منظور مختلف، يروق لك تجربة المطاعم التي لم تفكر يوماً بدخولها، وتذوق أطعمة قد لا تستسيغها، ثم تزج نفسك في أمكنة يدفعك إليها فضول من معك وروح المغامرة التي تحكم مسيرة الوقت في هذه الظروف.

بقيت إسطنبول لسنوات هي والقاهرة خياراتي المفضلة في الشرق، هذه مدن غارقة في التاريخ ومتجذرة فيه، تمتلك مزاجها وحميميتها، وأبوابها وأسرارها، ولا تبيحها لك إلا إذا عرفتها حقاً، وأنت لن تعرف أي مدينة كما يجب إلا إذا مشيت في أزقتها وشوارعها وقرأت تاريخها وأحببت مقاهيها وأطعمتها، وكانت لك أمكنة خاصة ترتادها وأصدقاء تلتقيهم فيها، عندها ستعرفها وستحبها وستراها بكل البساطة والجمال الكامن خلف الجدران والبنايات والضجيج والزحام واحتيالات لصوص السيارات.

مؤخراً أشرت على أحد أشقائي بزيارتها، وزودته بقائمة أمكنة ومطاعم لطيفة، عندما عاد قال بأن حرارة الطقس جعلته يضيق ذرعاً بالمدينة، وأنه لا يفكر في زيارتها مجدداً، والدتي كذلك لم تحب المدينة أيضاً، وأنا أتفهم ذلك بالنسبة لسيدة في مثل عمرها، لكنني أعتقد بأن إسطنبول من المدن القليلة التي يمكنها أن تلبي فضول أي سائح؛ لأن خياراتها لا تعد ولا تحصى، المهم أن يتقن الزائر اختيار الوقت المناسب ومعرفة الأبواب الملائمة التي يدخل منها إليها.

Email