الجوع (2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

علقت قارئة على مقال البارحة قائلة «… تحليلك لما حدث وسيحدث عميق ولكنه مخيف، أترانا سنجوع لفرط استهلاكنا ومحاولاتنا البائسة لخلق احتياجات جديدة كل يوم»؟

إن ما تشهده أوروبا حالياً أكثر مدعاة للخوف والتفكر، أوروبا قارة الأمطار والأنهار والغابات والوفرة والرخاء والطعام، والحياة التي يحلم بها الجميع، أوروبا اليوم تئن تحت وطأة صيف حار، وأمطار نادرة وأنهار بدأ بعضها يجف وبعضها يتلاشى، إنها البداية لطريق يبدو أنه سيكون صعباً، بعد أن سمعت دعوات في بعض عواصم أوروبا بضرورة الحفاظ على المياه وأن تكون الأولوية لشرب الإنسان!

ما الذي أوصل أوروبا لهذا الوضع ؟ إنه الاستهلاك الجائر لموارد الطبيعة، والذي قاد لظاهرة الاحتباس الحراري، اتساع ثقب الأوزون، ذوبان كميات هائلة من المخزون الجليدي في المنطقة القطبية، تناقص منسوب الأمطار وزيادة معدلات التلوث في كل مكان، هذا هو الثمن الذي تدفعه الإنسانية مقابل التحول إلى مجتمعات مستهلكة، شرهة، لا تتوقف عن اختراع احتياجات لا ضرورة لها سوى مضاعفة الفلسفة الاستهلاكية وإعلاء قيم السوق.

توقف عن أن تريد، هذه نصيحة أطلقها أحد الفلاسفة ذات يوم، لكن أحداً لم يتوقف، ظل الإنسان يحفر في كل يوم حفرة جوع جديدة ثم يسعى لملئها لا لردمها، وهذا هو الجوع المصنع الذي سينتج بدوره الجوع الحقيقي الذي سيلتهم حضارة الشبع والامتلاء والوفرة التي سعت الحضارة الإنسانية عبر تاريخها لبنائها.

إن الجوع ليس أن تملأ بطنك فقط، الجوع هو أن تبقى في حالة رغبة دائمة للامتلاء، أن تملأ جوعك للطعام / للمكانة، للمال، لامتلاك ما يمتلكه الآخرون، جوع يجعلك في حالة اختراع لاحتياجات متزايدة وغير ضرورية لكنك تصل في النهاية لأن تبرر احتياجك لها: إنها متطلبات الحياة المعاصرة، أو لا أريد أن أكون متخلفاً عن الركب، وبدل أن تخدمك تصبح عبداً لها، تدور في فلك نظام مرهق لتوفر المال لأجل الحصول عليها، والوقت لتلبيتها، والعلاقات لتسييرها بشكل سلس.. وهكذا.

Email